الخرطوم : الرآية نيوز
دكتور ياسر أبّشر يكتب :
“ترى والله إنها بلد طايحة في الأرض”!!!
يقول الدبلوماسي: قال لنا السفير إن المليونير السعودي شيخ عبد العزيز دعاني للعشاء بمنزله بالرياض وأنه يُلِحُّ على أن يأتي معي كل الدبلوماسيين، ولذا سنلتقي جميعاً لنكون في الموعد. وبالفعل رافقنا سفيرنا إلى العشاء في ذلك المنزل الفخم. كان كل شيء فيه جميلاً أنيقاً يشع ألقاً. يمضي الدبلوماسي ليقول: جيء لنا بكميات من الطعام تكفي مائة رجل أكول، وكان أكثرها لحماً وأرزاً. وبعد أن رفع السفير يديه من الطعام توقفنا عن الأكل كما تقتضي الأصول، وقد كنا نُصحنا، خلال فترة تدريبنا كدبلوماسيين، أن نذهب لمثل تلك الدعوات بعد أن نتناول طعاماً بالمنزل حتى لا نُظهِر شراهةً. ومما أذكره أنني رأيت صنبور مياه به مستشعر sensor لأول مرة في حياتي في منزل ذلك الثري السعودي، هذا رغم تجارب سابقة لي في الغرب. وحقيقة لم تكن تجربة اكتشاف المستشعر في صنبور المياه ذكاءً مني ولا تجربة سابقة. فقد وجدت زميلي “يلاوي” في الصنبور ليغسل يديه من دهون الكبسة والقرصان، وبالمصادفة وضعت يدي تحت الصنبور فسكب ماءه!!! وظن زميلي أنني بهذا الضرب من التقنية حفيظ عليم، كوني كنت في الغرب الذي لم يره هو.
يقول الدبلوماسي: كان مُضيفنا الثري يوظِّف في شركاته سودانيين، وكانوا طائفة من الرجال الأكفاء المحترمين الأمناء، وكانوا هم مبعث احترامه ومحبته للسودان وللسودانيين. وكان هو – ورغم ثرواته الهائلة – رجلاً ودوداً طيباً بسيطاً، يتحدث بلطف وبعفويّة خالية من التكلف والافتعال، فيتكلم بكل ما يطرأ له وما يدور بخَلَدِه، وكان حفيّاً بنا سعيداً بتلبية سعادة السفير وطاقمه لدعوته.
يواصل الدبلوماسي روايته ليقول: عدنا لمقاعدنا الوثيرة، وقُرّبت لنا الحلويات وأنواع الفاكهة التي حوت أنواعاً لم نرها من قبل، قيل إنها من أميركا الجنوبية!! وابتدر سفيرنا الأنس مع مضيفنا الثري، فمن قواعد الإتيكيت أن يبتدر كبير الدبلوماسيين الحديث، وفي مفتتح حديثه سأل مضيفنا: إنت هل زرت السودان يا شيخ عبد العزيز؟ ونحنا منهمكون في تناول تلك الفاكهة الغريبة، والتي لوحدها تُدخل عليك سروراً بجانب السعادة التي خلقها كل الجو الرومانسي الملوكي بجماله وفخامته وألَقِهِ. وبكل عفويته أجابه شيخ عبد العزيز برده الصاعق قائلاً: والله يا سعادة السفير زرته وليتني ما زرته!! والله يا سعادة السفير بلد طايحة في الأرض. والله يا سعادة السفير كأنها ما حكموها مسلمين!!!!
هنا توقف الجميع عن الأكل، وأخذوا ينظرون لبعضهم في استنكار لما قاله الرجل الطيب البسيط عن بلدهم. ولم يغب عن السفير أن المضيف إنما يتحدث بعفوية ويعتبر أن “البساط أحمدي” بيننا وبينه. ولم يغب عن السفير أن الشباب من طاقمه غضبوا من هذا التقييم المسيء لبلدهم، وهو يعرف حساسية الدبلوماسيين إزاء كل ما يمس صورة وطنهم، فبادر لإنقاذ الموقف ليقول للرجل: لا يا شيخ عبد العزيز انطباعك هذا قديم فالأوضاع تحسنت وتغيرت كثيراً. عندنا علّق شيخ عبد العزيز بطريقة لا تخلو من عدم تصديق، فقال “ريتا… ريتا…… ريتا” أي: ليتها ليتها ليتها!!!
كانت زيارة شيخ عبد العزيز للسودان – وفقاً لما قاله – أواخر الثمانينات. وقتها وصف السودان بأنه بلد “طايحة في الأرض”. وقتها قَصّر حكامنا في حق البلد، لكن للحقيقة لم يكن بينهم نكرة. وقتها لم تكن شوارعنا مُكتظة بالنفايات التي أقام الذباب والناموس مستعمرات بها. وقتها كانت مدارسنا وجامعاتنا تعمل بكل ما أمكن من كفاءة. وقتها لم تُعين الدولة منحرفة لرعاية اللواطيين والسحاقيات (الله يكرم السامعين). وقتها كانت مؤسسات الدولة العدلية والقضائية فاعلة، ولم تُلغِها لجنة من سايكوباثيين وتسيطر على كل شيء لتأكل أموال المواطنين وأموال الدولة وتَعْلِف منها أحزابها.
في ذلك الوقت كان أقصى طموح شيخ زايد أن “تصير أبو ظبي مثل الخرطوم” وكان يأمل أن ينجح ابنه محمد المتعثر في دراسته. ولكن محمد لم يستطع تجاوز الصف السادس الابتدائي. وتدور الأيام دورتها لنجد أن هذا الرجل هو من يُدير أمر بلادنا ويحدد لنا نوع الحكم الذي يناسبنا، عبر سياسيين منفتحين مطيعين، ويقوم هؤلاء السياسيون المنفتحون بشكره كل مرة لدعمه “لترسيخ الديمقراطية” في السودان!!! وعندهم فإن ديمقراطيته متميزة لها خصوصيتها، محلية الصنع Home Grown، يمكنك تسميتها الديمقراطية الدرهمية Dirham Democracy، وهي – من ثم – متفردة عن كل ديمقراطيات العالم، ما أحلاها وما أشهاها ديمقراطية ابن زايد النافعة الحلوة. لذا رفع هؤلاء السياسيون المنفتحون شعارهم، وهو: (بارك الله في مَنْ نفع ابن زايد واستنفع لنفسه وللسودان ربٌ يحميه).
في ذلك الزمن لم يكن لدينا عساكر “يبلعون” ألْسِنَتهم. ولم يكن لدينا “فريق من الخلا” وهو نائب رئيس الدولة. بل إن فرقاء ذلك الزمن هم من أسس للإمارات جيشها في 1973. وللأسف لم يكن رئيس وزرائنا منفتحاً على العالم ليستقدم لنا بعثة أممية لتنهض بنا وترعى شأننا كله.
في ذلك الزمن لم يكن لدينا ناشط سياسي مدمن خمر ويضرب زوجته حتى تفر من تعذيبه إياها هاربةً بملابس المنزل، تخيل إلى أي حد كنا متخلفين!!! ونفس هذا الناشط السياسي الآن يصيح بأعلى صوته “لا لقهر النساء” وهو وحزبه وأحزاب مجهرية معه تريد أن تطور نساءنا بسيداو SEDAW (اتفاقية القضاء على جميع أنواع التمييز ضد المرأة) لنتمكن من ضرب النساء ضربة لازب، إذ لا يجوز أن تتميز زوجتك أنت بالضرب وتحرمني منه إزاء زوجتي!!!! الغريب أن أميركا ترفض سيداو وأبناءها عندنا يريدون تطبيقها. هل رأيتم عقوقاً “أكتر من كدا”؟؟؟
في ذلك الزمن كنا متخلفين إذ لم نسمح لشبابنا بحمل البنات على كتوفهم، ولم تكن البنات يحملن لافتات مكتوب عليها عبارات جنسية، وليس ثمة أحضان في الشوارع بين البنات والأولاد لأننا – لجهلنا وتخلفنا – كنا نعتبر ذلك سقوطاً أخلاقيا وانحرافاً وقلة أدب. وحتى “بنقو الله والرسول ده” – كما كان يقول سكير بلدتنا عن المريسة حين تلعب برأسه وتحتوشه الشياطين – حرّمته حكومة ذلك الزمن القميء!!! والحمد لله الذي طورنا الآن فوصلنا مرحلة تعاطي الآيس كريستال وبعض كوكايين. (فضلة خيركم)!!!
تُرى هل سيواصل الثري السعودي وصف بلدنا بأنه “بلد طايحة في الأرض” بعد كل هذه النقلات والقفزات العظيمة التي حققناها الآن؟؟!!
دكتور ياسر أبّشر
———————————
2 أبريل 2022