كتب الخبير القانوني، ووزير الخارجية السوداني الأسبق الدكتور الدرديري محمد احمد، تحت عنوان:
“إلا المؤتمر الوطني”!
في حُميّا هذا الانتقال غير السلس والذي لايزال ينداح فصلا بعد فصل أكثر المتحدثون التركيز على استثناء المؤتمر الوطني من المشاركة في الحكم خلال هذه الفترة. بل مضى البعض الى الدعوة لإقصائه حتى من الوفاق الوطني المرتقب، وأوغل آخرون فرأوا انه ينبغي ان يحال بينه والإعداد للدستور الدائم، وفريق ثالث أبعد النجعة فجزم انه لن يشارك حتى في الانتخابات القادمة.
الآن وبعد ان عاد للقضاء صولجانه واسترد بعض عافيته لم يعد الأمر كله محكوما بأهواء السياسيين. وانما ستكون فيه للقانون كلمة. فهل ستُقر المحكمة العليا او المحكمة الدستورية، التي لا تزال تتخلق في رحم الغيب، هذا الذي يُراد بالمؤتمر الوطني او بعضا منه. ذلك ما نتناوله في هذا المقال.
ونقيس في ذلك على سابقة قانونية سودانية شهيرة اختلف الخلق جراها واختصموا، وتبدلت مواقف السياسة ازاءها من النقيض الى النقيض، لكن كلمة القضاء فيها ظلت راسخة على مر الاجيال كالطود الأشم. ألا وهي سابقة حل الحزب الشيوعي السوداني عام 1965 في ظروف الانتقال التي اعقبت ثورة اكتوبر.
فبسبب التظاهرات التي انطلقت احتجاجا على ما قاله احد الطلاب الشيوعيين في ندوة في معهد المعلمين العالي مساء 9 نوفمبر 1965 بشأن حديث الإفك تبنت الاحزاب صاحبة الاغلبية في الجمعية التأسيسية مقترحا لتعديل المادة الخامسة من الدستور المؤقت لسنة 1964 التي كفلت حرية التنظيم. وفي جلسة الجمعية التأسيسية بتاريخ 22 نوفمبر 1965 قدّم رئيس الجمعية مشروع قانون لتعديل الفقرة (2) من تلك المادة باضافة عبارة “على أنه لا يجوز لأي شخص أن يروّج أو يسعى لترويج الشيوعية سواء كانت محلية أو دولية أو يروّج أو يسعى لترويج الإلحاد أو عدم الإعتقاد في الأديان السماوية”.
كما اضاف التعديل فقرة تحت الرقم (3) تقرأ: “كل منظمة تنطوي أهدافها أو وسائلها على مخالفة الحكم الشرطي الوارد في ذيل الفقرة (2) تعتبر منظمة غير مشروعة”. وقد طلب محمد احمد المحجوب زعيم الجمعية ورئيس الوزراء رفع اللائحة مؤقتا لاجازة ذلك التعديل، فكان ذلك. وتم التعديل بأغلبية 142 صوتا وبمعارضة 17، في وقت كانت فيه عضوية الجمعية التأسيسية الكاملة 192 عضوا.
وهكذا تم حل الحزب الشيوعي، وبموجب تعديل لاحق طُرد نوابه الثمانية من الجمعية التأسيسية، طعن نواب الحزب المحلول في التعديل امام المحكمة العليا في القضية التي عرفت باسم جوزيف قرنق وآخرون ضد مجلس السيادة وآخرون. وقررت المحكمة في حكمها الشهير أن “الحقوق الأساسية التي تضمنتها المادة 5(2) من الدستور المؤقت محصنة من النيل منها او انتقاصها عن طريق الجمعية التأسيسية بالتشريع او تعديل الدستور”.
ويلاحظ ان القاضي صلاح الدين حسن الذي كتب الحكم استخدم عبارة “الحقوق الاساسية” ولم يستخدم عبارة “حقوق الانسان”. فالعبارة الاخيرة لم تكن متداولة حينها كمصطلح في القانون الدستوري. وانما كانت الدساتير تتضمن مجموعة من الحقوق تسمى الحقوق الاساسية تختلف من بلد لآخر. فالحقوق الاساسية في انجلترا هي الواردة في وثيقة الحقوق للعام 1689 وفي الولايات المتحدة هي التي جاءت في وثيقة الحقوق الامريكية 1789 (التي هي التعديلات العشرة الاولى من الدستور الامريكي). وقد اعتمد الفقه الدستوري على نطاق العالم مبدأ فحواه ان هذه الحقوق الاساسية غير قابلة للانتقاص. بصدور العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية عام 1966، الذي انضم اليه السودان عام 1986، تعززت هذه الحقوق وصارت تعرف بحقوق الانسان والحريات الأساسية.
وأوجدت ترتيبات يلزم اتباعها لضمان عدم انتقاصها. فصار من غير الجائز تقييد هذه الحقوق الا في الحالات الاستثنائية التي تتهدد حياة الامة وبعد اعلان حالة الطوارئ. ثم يشترط في ذلك التقييد ألا ينطوي على تمييز. أي انه اذا تقرر تعليق حرية التنظيم فينبغي ان تحل الاحزاب كافة لا ان يحل بعضها ويترك البعض الآخر.
ثم يُشترط إعلام الامين العام للامم المتحدة بالاحكام التي تم تقييدها ليخطر بدوره جميع الدول بذلك التقييد فيحيطها بسببه ومدته. تدريجيا صارت هذه المطلوبات جزءا من القانون الدستوري الداخلي للامم الاطراف في العهد الدولي، فاذا لم تستوف يقع التقييد باطلا وغير دستوري. في زمان سابقة جوزيف قرنق ضد مجلس السيادة لم تكن هذه التطورات قد اكتملت ولم تدخل بعد حيز القانون الدولي لحقوق الانسان او تدرج ضمن مبادئ الفقه الدستوري المقارن. فاذا كان قد تقرر بطلان حل الحزب الشيوعي عام 1965، بالرغم من ان هذه الضوابط الجديدة المشددة لم تكن قد شرعت حينها، فلك ان تتصور ماذا يمكن ان تقرر المحكمة اذا عرضت عليها اليوم مسألة حل المؤتمر الوطني.
وحيث ان الدول الاطراف في العهد الدولي ملزمة بإشعار الامين العام للامم المتحدة حين تتخذ اجراءات تقييدية، فقد اصبحت سجلات الامم المتحدة شاهدا للممارسة الدولية في هذا الصدد. واول ما يلاحظه المرء عند الرجوع لهذه السجلات ان هناك اختلاف في الممارسة بين حقٍ وحق.
فاذا كان العام الماضي 2020 قد شهد وحده تلقي الامين العام للامم المتحدة عشرات الاخطارات من الدول الاطراف تفيد باتخاذ اجراءات لتقييد “حرية التجمع السلمي” تحت المادة 21 من العهد الدولي للحقوق السياسية بسبب تفشي وباء كوفيد 19، فان تاريخ المنظمة الدولية الطويل لم يشهد إلا حالتين فقط تقدمت فيهما دولتان باخطارين تحت المادة 22 لتقييد “حرية التنظيم”. وفي الحالتين كان السبب الذي استدعى ذلك ينطوي على تعرض البلدين المعنيين لعدوان خارجي.
اذا كان حل حزب معين بقرار اداري او حتى تشريعي امر يحرمه القانون تحريما مغلظا، ومن ثم لا يصمد امام الرقابة القضائية، فإن اصدار المحاكم السودانية قرارا باعادة المؤتمر الوطني للحياة صار مسألة وقت. فذلك هو مقتضى العدالة التي رفعها البعض شعارا وذلك هو سبيل كل قضاء يتخذ النزاهة دثارا.
ولهذا عزيزي القارئ حرص اقوام في الفترة الماضية على فصل رجالات القضاء ونسائه وعمدوا الى تغييب المحكمة الدستورية. لكن ماذا عن امكانية منع هذا الحزب من المشاركة في صياغة الدستور الدائم للبلاد او الحيلولة دون خوضه الانتخابات القادمة !ان ذلك ايضا لا يعدو الا ان يكون “حديث خرافة”.
وأصل هذه العبارة، كما جاء في تاج العروس، ان رجلا من بني عُذرة اسمه خرافة قد استهوته الجن فاختطفته، فلما اطلقته رجع الى قومه وكان يحدثهم احاديث يَعجبون منها. فجرى على لسان الناس القول “حديث خرافة” لما لا يكون من الامور.
واعود للسابقة القضائية السودانية المذكورة لأستلَّ منها شاهدا على التحريم المطلق لمنع أي شخص او كيان من المشاركة في صناعة الدستور الدائم لبلاده. فقد قال القاضي صلاح الدين حسن: “إنه مما يقال بيقين تام انه يفترض في الحقوق الأساسية، وخاصة الحق في حرية التعبير والحق في حرية التنظيم وفقا للقانون، ان تظل مصونة حتى اقرار الدستور الدائم، فلا تنتقص ولو بموجب تعديل في الدستور. ذلك حتى يكون لأي مواطن أيا كان معتقده السياسي رأي في الدستور الدائم الذي سيعيش تحته هو وابناؤه وربما أبناء ابنائه”، وكأني بقاضينا العالم، وكما قال كعب بن زهير، “يرمي الغيوب بعيني مُفردٍ لَهِقٍ” فيقدم لنا، بعد نصف قرن ويزيد، رأياً قانونيا مباشرا في هذه المسألة.
بقيت المسألة الثالثة والأخيرة والتي هي ما اذا كان من الجائز حرمان حزب بعينه من المشاركة في الانتخابات او استثنائه من الوفاق الوطني. ان المشاركة في الشئون العامة حق لكل مواطن دون أي تمييز. وقد ضمنت هذا الحق المادة 25 من العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية.
فبحسب تلك المادة يحق لكل مواطن ان يشارك مباشرة او بواسطة ممثلين يختارهم، وله ان يَنتخب ويُنتخب وان تتاح له على قدم المساواة مع الآخرين الفرصة في تقلد الوظائف العامة في بلده. وقد اوضحت لجنة حقوق الانسان، التي هي الكيان الأممي الموكل بمراقبة تنفيذ العهد الدولي للحقوق السياسية، في الفقرة 17 من تعليقها العام رقم 25 انه “لا يجوز تقييد الحق في المشاركة في الانتخابات بأن يطلب من المرشحين ان يكونوا اعضاء في احزاب او اعضاء في احزاب معينة … وانه لا ينبغي استخدام الرأي السياسي كأساس لمنع أي شخص من دخول الانتخابات”. تقابل المادة 25 من العهد الدولي المادة 13 من الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب.
وقد قضت المحكمة الافريقية لحقوق الانسان والشعوب في قضية جمعية تنجانيقا للقانون ضد تنزانيا ان اشتراط انتماء المرشح لحزب سياسي او لحزب سياسي معين ليكون مؤهلا للتنافس على المقعد النيابي يعد خرقا للحق في المشاركة في الشأن العام المكفول تحت المادة 13 من الميثاق الافريقي. اذا كان ذلك هو الموقف القانوني من منع حزب من المشاركة في الانتخابات، فأي حظ من المشروعية يكون لمنع حزب من المشاركة في عملية تسمى ابتداءً “الوفاق الوطني”. بل لا ادري كيف يرجو من ينشد وفاقا بعرض الوطن ان يحجب منه حزبا بعينه!.
صفوة القول انه ليس في القانون ما يسمح بحل المؤتمر الوطني او بمنعه من المشاركة في الفترة الانتقالية او في الوفاق الوطني او في الانتخابات التي تعقب الفترة الانتقالية. فاذا اراد المؤتمر الوطني ان يمتنع عن بعض هذا، فهو خياره. اما اذا اراد ذلك آخرون فإنه يجوز للمؤتمر الوطني ان يلجأ للقضاء فيُسفِّه احلامهم.
اللهم الا اذا ضمنوا تغييب القضاء والقضاة لأجل غير مسمى. فالاستثناء بإلا لا يكفي وحده لتحقيق هذه الغاية.