السفير عبد الله الأزرق يرثي جرزلدا : جرزلدا مِنّا آل المجذوب

السودان

الخرطوم : الراية نيوز

السفير عبد الله الأزرق يرثي جرزلدا :

جرزلدا مِنّا آل المجذوب

جرزلدا، والله إنّا لفراقكِ لمحزونون. محزونون لأنكِ:
نَزَلتِ عَلى الكَراهَةِ في مَكانٍ  بَعُدتِ عَنِ النُعامى وَالشَمالِ
بِدارٍ كُلُّ ساكِنِها غَريبٌ  طَويلُ الهَجرِ مُنبَتُّ الحِبالِ
محزونون لأننا نعلم أن:
أفجعُ مَنْ فَقَدْنا مَن وَجَدْنا
قُبَيلَ الفَقْدِ مَفْقُودَ المِثالِ
أحبت جرزلدا عبد الله الطيب على كرهٍ من أبيها وأمها – أول الأمر – وإنَّهُ
والذي حَجّ الحجيج له سِرَاجٌ لَدَى الظَّلاَمات جِدّ مُنِيرُ.
قالت لي: إنها ألَحّت عليهما لتزويجهم إيّاه. وكانت العنصرية جد فاشية في بلاد الإنجليز آنئذ، ولما رأته أمها أول مرة من الشباك وهو داخل على منزلهم قالت إنه (like a murderer) يُشبه القتلة. هذا ما روته لي بنفسها وهي تضحك. وقالت لي إنها وهي قادمة للسودان أول مرة بالسفينة سألتها إحدى زوجات الإداريين الاستعماريين في كينيا عن سبب سفرها للسودان، فلما أخبرتها أنها ذاهبة للالتحاق بزوجها السوداني، نظرت لها الخواجية باشمئزاز وقالت لها: هذا مُقَزّز (Disgusting). لكنها أحبت ذلك العبقري ورأت فيه ما لم ير الجهلة من قومها، وقد صدق حدسها ولم يخيِّب ذلك الحبرُ لها رجاءً.
أخبرتني مرّة أن العالم المستشرق الذي كان يشرف على عبد الله في الدكتوراه في جامعة لندن، قال له: أنت أعْلَمُ مني.
وكان عبد الله يبادلها حُبّاً بحبٍّ وإجلالاً بإجلال، وكتب: “وقد تزوجت زواجاً أنا عنه راضٍ”.. وكانت نِعم الزوجة، التي لم تُوقف حبها لعبد الله عليه وحده، بل أشاعته ليعم أهله المجاذيب كلهم. فرَبّت أنجال أخواته، حتى:
شَبّوا على أسمى الخلال وكاثروا
أسنى الرجال بما نمت أيديك
طابت سرائرهم وراع ذكاؤهم
وبنوا فخاراً ليس بالمأفوك.
وهم اليوم وقد فارقوك يذرفون دمعاً سخيناً ويدعون:
سَقى مَثواكَ غادٍ في الغَوادي
نَظيرُ نَوالِ كَفِّكِ في النَوالِ.
وكأنّي بهم يبكونكِ وهم يتأوهون:
أيظلُّ كأسُ الحبِّ يا أمّأهُ
يروي شاربَه؟
أيظلُّ يدفقُ بالحنانِ
وإن عدِمنا ساكبَه؟
طبتِ حيّةً وميتةً يا (جوهرة).. وهذا اسمها بعد أن أسلمت.
كانت بيني وبينها محبة ومودة. تزورنا في بيتنا وأزورها. وحين ألتقيها تُشعرني كأنها أمّي، وتقول لي بكل الدفء والحنان: “عبد الله والله مشتهياك…. يااا حليلك”..
وكم من مرّة شرفتني بأن أهدت إليّ لوحاتها.
جئتها مودعاً وأنا مغادر لدبلن سفيراً، فقالت لي بأسى: “تاني الببقى في راسنا منو”!!!
إنني حزين أن أكون:

أَوَّلُ الناعينَ طُرًّا
لِأَوَّلِ مَيتَةٍ في ذا الجَلالِ
كَأَنَّ المَوتَ لَم يَفجَع بِنَفسٍ
وَلَم يَخطُر لِمَخلوقٍ بِبالِ
صَلاةُ اللَهِ خالِقِنا حَنوطٌ
عَلى الوَجهِ الـمُكَفَّنِ بِالجَمالِ
كانت جرزلدا خير شريك وخير معين لعبد الله، فحين ترجم الأحاجي السودانية في كتابه Stories from the Sands of Africa)) عام 1965، رسمت على صفحاته لوحات توضيحية لفاطمة القصب الأحمر، وللغول ولغيرها من أساطيرنا، ورسمتها كما نتصورها نحن.
وكانت الضابطة لبرامجه ومواعيده، وما أحسب أنه لولاها لما شَعّت عبقريته. وحقيقة لم أرَ وفاء وإخلاصاً كذلك الذي كانت تُكِنه جرزلدا لعبد الله الطيب، رحمه الله.
بعد وفاته قالت لي: أنا مُتّ مرتين، مرة يوم وقع عبد الله بالجلطة ويوم توفي.
كان جلال حريز، رحمه الله، يزورها، وكان يفصل منزله عن منزلهم شارع، وهو زوج لبنتنا الأستاذة آمنه بشير مدني، وكان عبد الله طريح الفراش، وكان معجباً بإخلاصها في ممارضته. أذكر أنه قال لي: “والله لو في زول بحيي الموتى لأحيت جرزلدا عبد الله الطيب”.
وكما كان عبد الله واصلاً لأهله المجاذيب، فخوراً بهم، يَتَرَنّم:
وقد سمى ببني المجذوب أنّهمو
أهل البيان وأهل العِلم والفكرِ
لا يأخذون جرايات الملوكِ وما ذُلّوا
وما حدّهم يوما بمنكسرِ
كذلك كانت جرزلندا بهم فخورة أيضا. فكانت تزورهم وتفقدهم في الدامر وفي سواها، وظل بيتها مثابةً لهم، حتى بعد وفاة عبد الله..
زارتني مرة بلندن وأنا سفير بها، وقالت لي: “شفت الإنجليز المجانين ديل…… قالوا لي أنتِ راجلك مات البقعدك في السودان شنو؟ البِجيبني هنا شنو….. أنا بيتي ملان”!!!
يا لهذا الحب والوفاء!!!
تقول جرزلدا هذا رغم أن الملكة قلدتها وساماً.
وتقول هذا ونحن نريد أن نهرب منه لبلاد جرزلدا!!!
ودُعِيَتْ مرةً لاحتفال لتكريمها، فطلبت من منظمي الحفل دعوتي وقالت لهم: “السفير الأزرق ده قريبي”…
نعم.. قالت لهم: “قريبي”!!!
وهكذا كانت تنسب نفسها للمجاذيب، وتذهب لقبر الشيخ المجذوب تدعو له وتترحم عليه.
هامت جرزلندا بالسودان حُبّاً، فوثّقت تراثه بمقالات نشرتها، مثلما وثقته بلوحاتها.
وأنا بدبلن أرسلت لي آخر كتبها في هذا الفن والذي كان موضوعه: Regional Folk costumes of the Sudan والذي زينته بلوحاتها عن “القُرباب” و”الفِدَو” و”الزُمام” و”الحجبات” وثيابنا وملابسنا التقليدية، التي كدنا ننسى بعضها.
أرسلته اتصالاً بحبها لأهلها المجاذيب.
قاربت جرزلدا المائة من عمرها، وظلت كل عمرها شعلة متقدة النشاط.
ومنذ كانت فتاةً كانت
تبني المجدَ ما فاق تسعينَ حجة
وكانَ إلى الخيراتِ والمجدِ ترتقي.
وظلّت:
حَصانٌ مِثلُ ماءِ الـمُزنِ فيهِ
كَتومُ السِرِّ صادِقَةُ الـمَقالِ.
حدثني السفير حسن عابدين أن عبد الله الطيب التقاه مرة في الجامعة -ولعل ذلك كان حين كان عبد الله مديرها- وسأله عن أداء جرزلدا التي كانت تُحضر لدرجة الماجستير معهم. قال له حسن عابدين: ” كويس ….. بس الغريبة يا بروفسر إنها مرات بتغلط في الإنجليزية”!! فردّ عليه البروفسور: “يعني شنو…… إنت ما بتغلط في العربي؟”.
قال لي حسن عابدين: والله لم أسمع رداً صاعقاً كهذا، ولم أنتبه إلى أنني أخطئ في العربية إلّا ذلك اليوم!!!
وبعد يا جوهرتنا الخالدة:
اعلمي أننا نحبك وأنت في دار الخلود، كما أحببناك في هذه الفانية التي لا تُبقي على أحد، ولا يدوم على حالٍ لها شانُ.
شكراً جرزلدا لأنكِ احتملتينا بكل ما فينا من فوضى، ورغم قيظ صيفنا وكتاحتنا وكُوَشِنا.
وثِقي أن كل واحد من آل المجذوب يقول لك:
فلا واللهِ لا أنساكَ حتى
أُفارِقَ مُهْجَتي ويُشَقُّ رَمْسي.
وفي ذمة اللَه اغنمي نعماءه
أجراً فما غير الخلود يفيكِ.

ورحمة الإِلهِ إِلهِ العِبادِ وَأَهلِ البِلادِ عَلى جوهرة.

اترك رد