دكتور ياسر أبّشر يكتب: ويسألونك عن كرتي
السودان
الخرطوم : الراية نيوز
دكتور ياسر أبّشر يكتب:
ويسألونك عن كرتي
في مقالاتي عن الشيوعيين ذكرت علاقتي بأحمد سليمان المحامي رحمه الله وجعل الفردوس الأعلى مثواه. فمن حِكَمِه أنه كان يقول لمن “يقطع” أي ينم في إنسان “ما تطلّق بقرك…….. شمال السودان ده كلو بعرف بعضو”. وبالفعل فالأُسر في شمال السودان متداخلة وتعرف بعضها بالنسب والمصاهرة وبالزمالة في عمل أو دراسة ومتاجرة وسفر، وما إلى ذلك. ومن ثم فمن السهل أن تجد ملف كل إنسان وتاريخه وسيرة أسرته.
وهكذا عرفت كرتي وسألت عنه من يعرفه لعشرات السنين، فعلمت أنه كان ثالث الشهادة السودانية ودخل كلية القانون جامعة الخرطوم عهد كانت “جميلة ومستحيلة ” وتدخلها النخبة The cream of the cream. تخرج كرتي وعمل في المحاماة ثم اغترب ليعمل في المكتب القانوني للأمير سلطان بن عبدالعزيز، ثم منه مضى للشارقة في المكتب القانوني لحاكم الشارقة. وهو هناك تُوفي أبوه وترك من خلفه ذُرّيةً صغاراً زُغب الحواصِلِ ، خاف عليهم . عندها قرر كرتي العودة للسودان ليرعى إخوته الصغار وعمل في تجارة الأسمنت والسيخ والزراعة. وبتلك النِية الطيبة كثّر الله ماله، وبما كان ينفق ضاعف الله ثروته، وصار من مُموّلي الجبهة الإسلامية قبل الإنقاذ. وقبل أن تجيء الإنقاذ أصبح كرتي مليونيراً.
حدثني من أثق فيه أن كرتي بنى سبعة بيوت فاخرة لسبعة من الإسلاميين المُعوزين، وبنى واشترى بيوتاً لعديدين مِن غيرِ الإسلاميين، وأقسم أن كرتي لم يقل له ذلك وإنما سمعه من بعض الذين بنى لهم ومن آخرين تحدثوا عن أفضاله عليهم .وأنه كان يعول الأرامل والمحتاجين وينفق على الأيتام والفقراء نفقة من لا يخشى الفقر. وقال إن بركة كل ذلك كان يضاعف ثروته أضعافاً مضاعفة، وقال لي “كان المال في جيب كرتي ولم يكن في قلبِه”.
وسفير يقول إن المحظوظ كان من يسافر مع كرتي حين كان وزيراً للخارجية. كان كرتي يسدد للفندق كامل نفقة إقامة الوفد من حُرّ مالِه. ومحظوظ ذلك السائق الذي يقود سيارته سواء في حله أو ترحاله، لدرجة أن العمال والسائقين الذين يعملون مع كرتي يرفضون النقل للسفارات إذا حال أوان نقلهم لها. وتساءل: لماذا يسافرون وكرتي يوفّر لهم احتياجاتهم وهم بالسودان مقيمون مع أسرهم بأكثر مما كانوا سيُوفّرُنَه إذا اغتربوا “وهمّلوا جناهم”!!. قال لي السفير: إن كرتي كان يشتري خراف الأضاحي من حُرّ ماله لكل عمال الخارجية، ومن حرّ ماله كان يعالج مرضاهم.
وأهل حجر العسل وما حولها من القرى عَرِفوا كرتي “ضو قبيلة”، وفي الخرطوم يعرف كثيرون المساجد التي بناها. وقال لي سفير للسودان كان بموريتانيا: إن كرتي بني أكبر وأفخم مسجد في نواكشوط في جزء من الأرض التي خُصصت للسفارة، وصار يؤمّه عَلِيَة الناس هناك، وكاذبٌ من يقول إن كرتي قال له: أنني فعلت كذا وكذا لأحدٍ من الناس. وقال السفير: إن برنامج افتتاح مبني السفارة الجديد بواسطة البشير في زيارته لموريتانيا كان يتضمن افتتاح المسجد بأداء صلاة الظهر فيه، وفي المسافة بين السفارة والمسجد سأل البشير كرتي من أين موّلوا بناء المسجد، فالخارجية لا تبني مساجد، فسكت كرتي، وكرر الرئيس سؤاله فلم يُجبه كرتي، ففهم البشير!! قال لي السفير: إن أي أحد آخر كان سيقول للبشير متفاخراً: هذا مسجدي بنيته من مالي… وأضاف السفير الإسلامي إن البشير يقول كثيراً، إن هناك رجلين لهما أيادٍ على الإنقاذ وليس للإنقاذ وأهلها عليهم فضل….الجاز وكرتي.
هذه سيرة كرتي التي سارت بها الركبان.
وقد قرأت عن حملة غير شريفة ولا نظيفة، تناوَشَتْه بأسيافٍ وأرماحِ. ورجل تلك سيرته ينبغي أن ينبري من هو مثلي للدفاع عنه، وهو الآن مطارد، قيل لي: إنه لا يكاد يبيت في مكانٍ ليلتين!! وليس في الدفاع عنه مَغْنَم، بل ربما فيه مَغْرَم. وشانئو كرتي فريقان، فريق من أعداء الإسلاميين، وهم اليساريون الذين لا يعرفون للخصومة شرفاً ولا يرجون للعظماء وقارا، وهؤلاء يحبون أن لا يبقى بين الناس من هو جديرٌ بتَجِلّة ولا صحاب مرؤةٍ وكرم، حتى يخلو لهم الجو فيبيضوا ويُصْفِروا ويُشيعوا في الأرض الفساد!! ورأيي فيهم مشهور منشور.
وهناك نفر قليلٌ من الإسلاميين يستهدفونه ويتهمونه بالتقصير في قيادة ركبهم، وهذا لعمري ظُلمُ ذوي القربي الذي هو أشدّ مضاضةً على المرءِ من وقعِ الحسامِ المُهَنّدِ. فقد جَنّب كرتي قومه مهاوي ومنزلقات يتمني الحاكمون الذين يتربصون بهم الدوائر أن يقعوا فيها. ووفقاً لما قاله هو مرةً في بيان لحركته أنه يصد شباب الإسلاميين عن القتال حرصاً على البلد واستقرارها. وكان بالفعل يستطيع أن يحيل الخرطوم إلى محرقة بإشارة منه وتحت إمرته آلاف المجاهدين. وكل ذلك إنما يَنُمُّ عن عقلٍ ثاقب ورَوِيّة راجحة.
وأشد ما أثار عجبي هو ما قاله لي أحد الإسلاميين أن بعض من في السجن من قياداتهم يُشِيعون أن كرتي هو من زج بهم في غيابة السجن . وهذه لعمري قلة العقل ونقص في معرفة أقدار الرجال. فمن كانت تلك شِيَمه يستحيل عليه أن يخون رفيقه. وقال لي الرجل: إن عبد الرحيم دقلو قال لمن في السجن: إن كرتي هو من فعل بهم ذلك فصدّقوه!!! والظلمُ من شِيَمِ النفوسِ
فإن تجد ذا عِفّةٍ فلعلّة لا يظلمُ.
وقال لي: إنه لامَ صحفياً لظلمه لكرتي في مقالاته، فرد عليه الصحفي: “انت عارف أنا وكِت أفَلّس بعمل شنو ” ولا تعليق لدي!!!
وسمعت من الإسلاميين أنفسهم أن كرتي هو من كوّن “الدفاع الشعبي” والذي لولاه لما وجد الجيش ظهيراً، ولولاه لانْتُقِصَت بلادنا من أطرافها. وكان الدفاع الشعبي جيشاً من ألوف. فقدراته مذكورة ومشكورة، وينبغي أن تُذكر ولا يجوز أن تُنكر. ويقولون إن أباه من الشايقية، وأمّه من الجعليين بيت المك نمر، فهو – وِراثَةً – شجاعٌ مقدامٌ، غير هيّابٍ ولا وَجِل.
يا معشر الإسلاميين لا تنقضوا غزلكم من بعدِ قُوّةٍ أنكاثا، فلم يبق بالسودان من لم يتلوّث بالعمالة من الأحزاب إلَا قليل معكم. ولن يستنقذ السودان من وهدته إلّا أنتم وذلك القليل. فلا يضلّنكم دقلو وهو كذّاب أشر، يفت في عضدكم ويفرّق جمعكم فتخسرون ويخسر السودان. قوموا يرحمكم الله، إلى كرتي فأنصفوه، واجتمعوا بالخير عليه لِبَدَا.
وبعد: فإنني أكتب كل هذا حتى لا يقال ذهبت المروءة بين الناس.
دكتور ياسر أبّشر
————————————
16 يناير 2022