رصد : الراية نيوز
حليم عباس يكتب :
يظهر في الساحة السياسية السودانية توجهان أساسيان: (أ) توجه سياسي مع الحوار و التوافق و الوحدة الوطنية و (ب) توجه ثوري راديكالي لا يؤمن، من حيث المبدأ، بشيء اسمه حوار و توافق، و ذلك ببساطة لأن مقولات الحوار و التوافق و الوحدة الوطنية تتعارض مع فكرة “الثورة” نفسها كوسيلة للتغيير.
دعونا لا نفترض حسن النية في أيٍ من التوجهين؛ فلنفترض أن السياسية المختلفة تتبنى أحد التوجهين بناءً إمكانياتها و فرصها مصالحها السياسية بشكل أساسي، باعتبار أنها لا تستطيع أن تعرِّف المصلحة الوطنية بمعزل عن مصلحتها هي، أو بما يتعارض معها، و هي لا تفكر في محاولة جعل مصلحتها متطابقة مع المصلحة الوطنية، و ذلك بسبب عجزها الفكري و السياسي؛ و عليه فإن القوى التي تميل نحو الحلول السياسية المفيدة للوطن هي القوى التي تتطابق مصلحتها مع هذه الحلول، بمعنى أن القوى التي تريد التوصل إلى حل سياسي توافقي يقود البلد إلى الانتخابات و الديمقراطية تفعل ذلك لأن مصلحتها تقتضي ذلك، و في المقابل كذلك القوى التي ترفض الحلول السياسية التوافقية تفعل ذلك انطلاقاً من تصورها للمصلحة الوطنية الذي لا ينفصل عن مصلحتها هي و رغبتها في تطبيق رؤيتها السياسية.
أما إذا نظرنا إلى الواقع سنجد أن رهانات التوجه الثوري قد فشلت. فمن الناحية النظرية لا تملك “قوى الثورة” مشروعاً أو خطاباً تطرحه على الناس، من هذه الناحية هي مفلسة تماماً، نظرياً و أيضاً عملياً من واقع تجربة ديسمبر. و على الأرض الواقع فقدت هذه القوى قدرتها على التأثير على الشعب و على الشارع، و بعد مرورأكثر من نصف عام من الإطاحة بشراكة كورنثيا يتضح أكثر فأكثر فشل الرهان الثوري، و عودة السياسة كوسيلة أساسية للتعاطي مع الواقع؛ عادت السياسة و عادت الواقعية و انتهى ذلك الزمن الذي تأثر فيه صفحة فيسبوك باسم كيان شبحي مثل تجمع المهنيين في مجريات السياسة في البلد، أو يحدد فيه #هاشتاق من يشغلون مناصب في الدولة، ذلك الزمن المضحك قد ولى و لن يعود، و علينا مواجهة الواقع الحقيقي . ففكرة “إسقاط الإنقلاب” و معاقبة جميع من تورطوا فيه و أيدوه قد أصبحت جزءاً من الماضي، و عبارة “إسقاط الانقلاب” أُستبدلت بعبارة أخرى مخففة “إنهاء الانقلاب” في خطاب بعض قيادات المعارضة. باختصار، الرهان الثوري قد فشل، معنوياً و مادياً، أي بحسابات الأخلاق و السياسية و بحسابات القوة الفجة. و أصبح الحل الوحيد المتاح هو الحل السياسي.
هذه هي أهم نتائج إجراءات ( أو قُل انقلاب، لا يهم) 25 اكتوبر، المهم هو أنها أنهت العبث السياسي الذي كان قائماً باسم الثورة، و أعادت من جديد إمكانية الحل السياسي عبر الحوار، و هو ما يحدث الآن، و سنصل في النهاية، بشكل أو بآخر، إلى محطة الانتخابات التي يقول فيها الشعب كلمته الفاصلة.
القوى السياسية التي قبلت بالحوار هي القوى التي لها مصلحة في ذلك، و القوى التي ترفض الحوار هي القوى التي ليست لها مصلحة في الحوار؛ هذا أمر طبيعي و بديهي. لا داعي لاستدعاء أي اعتبارات أخلاقية في الأمر.
و لكن على أية حال، فالحوار من حيث طبيعته هو نشاط يقوم على المشاركة و تبادل الأفكار و الآراء بغرض الوصول إلى حلول سياسية مقبولة للجميع، و هو نشاط منفتح يقوم على التراضي و التواصل و تقبُّل الآخر المختلف و محاولة التوصل إلى حلول معقولة معه و كل ذلك على أرضية من المبادئ و القيم و الأهداف العامة المشتركة. إذا كانت هناك قوى سياسية تتفق أجندتها مع هذا المسعى، بغض النظر عن دوافعها، فهذه القوى تعمل في النهاية من أجل التوصل إلى حل سياسي بشكل علني معروف و مفتوح. و في المقابل ما الذي تعد به الحلول الثورية ؟ إنها تعد بكل ما هو نقيض الحوار و التفاهم، بالصراع و الإقصاء الفوضى و الكراهية، و تراهن عى استمرار الوضع على ما هو عليه من انهيار و تحلل ، على أمل أن معجزة ما ستحدث و تنتصر “قوى الثورة” و تصل إلى السلطة، و لا أحد يعرف ما سيحدث بعد ذلك. و لكن ذلك قد لا يحدث، و قد يحدث أمر آخر هو سحق بقايا هذه القوى مع مرور الوقت.
بعض القوى الرافضة للحوار هي في الواقع لا ترفض الحوار من حيث المبدأ، و لكنها تريد حواراً بينها و بين العسكر على غرار حوار كورنثيا. هذا هو موقف قحت-المجلس المركزي؛ فهي لم ترفض الجلوس مع العسكر، و لكنها تريد الجلوس معهم وحدهم دون الآخرين، و ذلك باعتبار أن المشكلة كلها عبارة عن طلاق تم يوم 25 اكتوبر بين شريكين و النقاش كله يجب أن ينحصر في هذه النقطة. خطاب قحت كله يدور حول “انقلاب 25 اكتوبر” و كأنه هو المشكلة الوحيدة في العالم و في الكون كله.
مشكلة السودان طبعاً ليست في “انقلاب 25 اكتوبر”، هي أعقد من ذلك بكثير، حتى قادة قحت يعرفون ذلك. في الواقع فإن المعطيات تدل على أن هذا الانقلاب هو خطوة في تصحيح المسار بالفعل كما يدعي قادته، و الدليل على ذلك هو اعتراف أحد قادة قحت: “أن من أخطاء الحرية و التغيير أنها لم تنفتح بشكل كاف لتمثل كل السودانيين” و هو نفسه الذي شبه الفترة الماضية ب”عهد الإرهاب” الذي أعقب الثورة الفرنسية، و لكن الدليل الأهم هو الجلبة التي تثيرها قحت بسبب شمول الحوار لقوى سياسية كانت مبعدة في السابق، هذا الذي تسميه قحت بإغراق عملية الحوار بقوى سياسية من النظام البائد هو أحد أفضل حسنات 25 اكتوبر، و يدل على أن شعار توسيع قاعدته الانتقال الذي ردده “معسكر الانقلاب” كان شعاراً جدياً، كون هذا الشعار لا يصب في مصلحة قحت و يتعارض مع رغبتها في الهيمنة هذه مشكلة تخص قحت، و لكنه أمر إيجابي بكل تأكيد. مقولات “فلول” و “نظام بائد” و “قوى ثورة” هذه تنتمي إلى قاموس ثورة ديسبمر و إطارها الفاشل و الذي لم يعد قائماً و لا معنى له؛ هناك شعب سوداني و قوى سياسية سودانية و أي حل سياسي يجب أن يكون بمشاركة الجميع و يعبر عن وحدة الإرادة الوطنية و ليس إرادة مجموعة مكونات تسمي نفسها “قوى ثورة” تظن بأنها امتلكت الوطن باسمها.
الحوار الوطني مهما جاء تحت تدخلات خارجية دولية و إقليمية هو أفضل فرصة للحل السياسي، طالما أن السودانيون فشلوا في إقامة الحوار من تلقاء أنفسهم و إلا لما تدخل أحد بيننا كسودانيين، وفهي النهاية مهما كانت هذه التدخلات تظل عملية الحوار نفسها عملية بين سودانيين تقع عليهم مسئولية التوصل إلى حل سياسي و التوافق عليه و تطبيقه، و ما دام الحوار مفتوح للجميع (إلا من أبى) فليس هناك أي حجة لرفض مخرجاته أيا كانت، خصوصاً من أولئك الذين وُجهت لهم الدعوة و لم يمنعهم أحد من المشاركة و طرح مواقفهم من خلال الحوار مهما كانت.
و لكي يكون هذا الحوار قد حقق أغراضه يكفي أن ينتج توافقاً حول الانتخابات و ترتيباتها و وموعدها، ليقرر الشعب بعدها من يختار.