د.محمد المجذوب يكتب : في نقد دولة المواطنة

السودان

الخرطوم : الراية نيوز

د.محمد المجذوب

في نقد دولة المواطنة

تبدوا نظرية دولة المواطنة قد أعطيت دوراً رئيسياً ومركزياً كبيراً لا تستحقه، ليس في مشكلات حياة المجتمعات والشعوب الإسلامية فحسب، بل حتى في حياة الانسان بصفة عامة كونها لا تحقق معاني الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.

فعلى الرغم من الحقيقة القائلة بأن الدولة القائمة على مبادئ الحكم الدستوري هي أكثر الأشكال نجاحاً في دول القرن المنصرم، وهي النموذج الذي تتطلع إليه الدول غير الأوربية، إلا أن هناك حالة اضطراب وتناقضات ضخمة بادية في بنية وطبيعة ووظيفة فكر خطابات دولة المواطنة، كونها تعبر فقط عن مجرد واجهة فلسفية تخفي ورائها مصالح الجماعات الحاكمة، فضلاً عن صعود الخطاب المتوحش للفردانية وإشكالية المواطنة ذات البعد الفرداني المادي.

كونه وفي ظل خطاب تنامي النزعات الفردانية، لا تعدو المواطنة أن تكون دافعاً لتحصيل حقوق مادية للفرد يسعى لتوسيع دائرتها أقصى ما يمكن، استجابة لدوافع اللذة والمتعة والمنفعة الشخصية، في ظل ضمور روح التطوع والضمير الخلقي والحس الجماعي وانكفاء الفرد غلى ذاته حدّ الولع النرجسي.

وهو ما تظافر مع انتشار الأنانية والعنصرية والنسبية الأخلاقية والالحاد والنزعة الأنانية، وكذا تفكك الروابط الاجتماعية وانفصال الذات الفردية عن الذات المجتمعية.

ولئن كانت دولة المواطنة تعتبر السياسة موضعا للتعاقد الاختياري بين مواطنين أحرار، إلا أنها تخفي إخضاعها الناعم للأفراد من خلال آليات التطويع والترويض والقهر، فالمواطن الحر ليس كائنا حقوقيا مجردا بل هو قبل كل شيء كائن حي خضع ومازال يخضع لأشكال شتى من الضبط والإكراه الناعم المنبث في مختلف مناحي النسيج الاجتماعي والسياسي على حد تعبير “ميشال فوكو”، مما يجعل هذا القمع الناعم لسلوك المواطن قابلا للضبط والتوجيه والتحديد ضمن وعاء سياسي محدد ومنضبط.

اما فكرة مشاركة المواطن في تحديد سياسات الدولة الخارجية في إطار دولة المواطنة فإنها في حاجة إلى مراجعة. حيث نجد مثلا أن تحديد السياسات الخارجية في النظم الليبرالية لا يخضع لمواقف مجموع المواطنين، وإنما لتحالفات النخب السياسية ودوائر النفوذ العسكري و المالي والإعلاميّ، ولا أدلّ على ذلك ممّا حدث خلال الحرب على أفغانستان والعراق حيث اتخذ قرار الحرب رغما عن إرادة جماهيرية غالبة مناهضة لتلك الحروب. دون أن ننسي رحلة إجهاض حالة الربيع العربي، وتحويل البحر المتوسط إلى مقبرة جماعية للمهاجرين الأفارقة والآسيويين كونهم غير مواطنيين أوروبيين.

ومهما قيل في شان مساهمة جدل المواطنة في تقليص مخاطر التوتالتارية والأنظمة الشمولية، إلا أن استفحال الفردانية والتفكك الاجتماعي وخضوع الإنسان لترشيد المواطنة الفردانية وإكراهاتها تجعلنا نفكّر جديا في ضرورة الفصل بين دولة المواطنة ونموذج بناء الحياة السياسية في العالم الإسلامي، وضرورة إيجاد صيغ متعالية أعدل وأكثر إنسانية لمعنى السياسة.

واذا وضعنا في الاعتبار ان عملية نقل بنية الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال إلى العالم الإسلامي، كمقدمة لدولة المواطنة وكإطار عملي وقانوني لها قد جاءت مرتبطة وقبل كل شيء بالترتيبات الاستعمارية، التي تريد أن تجعل من العالم الإسلامي، تابعاً للعالم الغربي المستعمر وربطه بالسوق العالمي، بحجة نقل قيم المدنية والحضارة والحرية، فهي أي الدولة المركزية، قد أنشئت لخدمة الدول الاستعمارية منذ البداية، وكان الهدف منها هو ضبط العالم الإسلامي وتوجيهه، لصالح الخارج ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً … الخ.

وهكذا فإن هناك ثمة عوامل متكاثرة تدعوا الى التفكير بشكل مختلف – لاسيما في عالمنا الإسلامي- لمواجهات المتغيرات الخطيرة التي يشهدها هذا العالم، وهي المتغيرات الداخلية المتعلقة بظاهرة تآكل الدولة القومية الوطنية بل انهيارها، والأخرى خارجية متعلقة بأحوال النفوذ والضغوط التي تمارسها السياسة الإقليمية والدولية والعلاقات الدولية.

وهي الإشكالات التي تظهر في ان دولة ما بعد الاستعمار “الدولة الوطنية في العالم الإسلامي”، حيثما وجدت فإنها تواجه مجموعة متلازمة من الازمات “الداخلية” الملازمة لها، كإشكالية الشرعية السياسية والهوية الاجتماعية والعدل الاجتماعي واغتراب الانسان … الخ، كونها الازمات العميقة وان اختلفت في درجة حدتها من دولة الى اخري في العالم الإسلامي الا انها لا تختلف في نوعيتها، وبإمكاننا إعطاء إشاراتوجودها فلسفية ونظرية، توضح عوامل تهافت محاولات تبيئه دولة المواطنة من الناحية النظرية، وانتفاء مبررات التاريخية والنظرية.

تعليق 1
  1. […] د.محمد المجذوب يكتب : في نقد دولة المواطنة […]

اترك رد