هشام الشواني يكتب : العلاقة مع الغرب ليست علاقة حب ولا كراهية
السودان
الخرطوم : الراية نيوز
هشام الشواني يكتب :
العلاقة مع الغرب ليست علاقة حب ولا كراهية، الغرب نفسه صناعة ومخيال ناتج عن الحداثة والرأسمالية ومرحلتها الاستعمارية، ثم مرحلة الاستعمار الجديد وصناعة ثقافة واحدة زمن العولمة، في هذا السياق نحن نتحدث عن نهضة تتجاوز هذه الشروط، نستدعي النقد الثقافي والفكري عبر الحوار مع الغرب والتثاقف معه، ثم عبر النضال الوطني والمجاهدة السياسية يبدأ الطريق، وكذلك بحوار عميق مع الذات والتراث، إنها عملية معقدة تتجاوز الحب والكراهية، فهي الواجب التاريخي للأمة والفرد.
في هذا السياق يفشل الليبرالي عن فهم ما يحدث حقا، يحول رغائبه وانطباعاته الساذجة لقوانين وقواعد، ويظن أن الصراع هو صراع (محلي/محلي)، بين المحافظين والليبراليين، بين الإسلاميين والعلمانيين، لكن الصراع في جوهره هو صراع حول الواجب التاريخي اللازم، هل ننهض بثقافتنا وتراثنا ونفعل ديناميكيات التطور فيهما؟ أم ننهض بالتقليد الأعمى للغرب؟ هل ذلك الطريق ممكن أصلا؟ من هنا تنشأ التصورات المتعارضة، وتكتسب هذه المرحلة التاريخية توترها في ظل شروط حداثية تشمل الجميع.
سبر أغوار هذا التوتر التاريخي في شخصية الأفراد لا يكشفه علم النفس، بل تكشفه الرواية والفن، كشفته قبلئذ شخصية (مصطفى سعيد) في رواية الطيب صالح، وهي اليوم تعبر عن حقبة أقدم قليلا عن ما نعيشه، فإذا كان (مصطفى سعيد) غارفا في هواجس وجودية ذاتية قلقة نابعة من لقاء الغرب والشرق في مرحلته المبكرة، إلا أننا (أبناء مصطفى سعيد) نتحرك من هواجس وجودية مغايرة وموضوعية، فالاستغراب – أي رد الفعل المعاكس- لم يعد ممكنا. صار العالم عولميا بمركزية غربية ليبرالية، لكنه عالم مصحوب بالحرمان، ومن يخرجون في الشوارع اليوم هم ضحايا هذه (الثمرة الليبرالية المحرمة). هم الراغبون في حياة لا تنال، تلك الحياة التي تكون دوما في مكان آخر هو الغرب، وفي فيديوهات السوشيال ميديا وعالم الإنمي وأفلام نتفلكس. وبالتأكيد في عالم صناعة المعرفة وانتاجها.
اليوم يخرج (إبن مصطفى سعيد) ليجد نفسه في مدينة سودانية بائسة، في العاصمة أو الولايات. يركب المواصلات ويشعر بغربة رهيبة من هؤلاء البشر، ومن مجتمعه، إبن مصطفى سعيد قد يكون (راستا مان) يحسب نفسه (فنانا معذبا) وسط عالم لا يقدر الفن، أو يحسب نفسه (ثائرا متمردا) مقابل مجتمع لا يعرف الثورة، في الحقيقة إبن مصطفى سعيد هو الضحية، وهو كليشيه من أبيه ومن عصره، إبن تملأ روحه التفاهة، ويغرق عقله في السذاجة، نفسه محطمة وشخصيته على درجة كبيرة من الهشاشة. وبعد أن يترجل إبن مصطفى سعيد من المواصلات، لا يجد ذاته إلا مع إخوته من الشباب المشابهين والمشابهات، غرباء أطوار يتزايدون يوما بعد يوم. هذا هو إبن مجتمعنا المحروم المستهلك للغرب أيضا. هناك جانب آخر للمأساة وأعني ذلك الذي عبر المتوسط مثل جده مصطفى، لن يجد الغرب القديم بل سيجد الغرب وقد صار أكثر انحطاطا، وصارت المعرفة فيه آلية، برامجية، تلقينات لا ترقى حتى للاستشراق القديم. لكنه لا يزال مركز العالم وصانع قوته ومانح صكوك الدخول للحياة المعاصرة من أوسع الأبواب.
هذه الحالة قد يشرحها علم الاجتماع لكن مستواها الوجودي العميق لا يكشفه إلا الروائي والفنان الحقيقي. الليبرالي سيكتفي بالانطباعات السخيفة الفوقية عبر فكرة خاطئة عن التغيير، السياسي العادي المتشدق لا يفهم هذه الأمور أبدا،
الموقف الوحيد القادر على الشعور أولا بهذا التوتر، ثم بكشفه، والعمل على تفسيره وتجاوزه هو موقف بعض المحافظين ممن يتقدم ليفهم شروط الحداثة، بدون تحويل هذا التوتر الحضاري لتنميط ساذج. بعض الإسلاميين قادرين على ذلك؛ وقلة من اليساريين قادرة على ذلك أيضا. غالب (الفنانين الحاليين) لاسيما من ينتج فنه هناك خلف البحار، أعمالهم الفنية مجرد صور رديئة وشخصيات فارغة المضمون لأشباح معذبة وأرواح قلقة ونفوس غافلة متبلدة عن حركة التاريخ. هم نتيجة لا سبب، ومفعول به لا فاعل. وهم إخوتنا من (أبناء مصطفى سعيد) الذين يصرخون طلبا للنجدة.