ياسر أبّشر يكتب : “حميدتي” براقش السودانية

السودان

ياسر أبّشر يكتب : “حميدتي” براقش السودانية

حين يجهل المشتغل بالسياسة التعقيدات الجيوسياسية التي حوله، ويجهل أحجام الفاعلين السياسيين في محيطه القريب، يدخل نفسه في مستنقع يمكن أن يودي به.

في أبريل 2021 أعلن السودان تجميد اتفاقه مع روسيا لإنشاء قاعدتها على شاطئ البحر الأحمر.. وفي يونيو أعلن رئيس هيئة الأركان محمد عثمان الحسين أن السودان بصدد مراجعة الاتفاقية العسكرية مع روسيا، بما في ذلك القاعدة البحرية على البحر الأحمر.. وتلاه إعلان البرهان أن السودان لديه ملاحظات على الاتفاقية.
وكان جلياً أن تنصل القيادة العسكرية السودانية جاء نتيجة لضغوط أمريكية وغربية. فالقوى الغربية تخشى من التمدد الروسي في شريان رئيسي في منطقة تعج بالصراعات في الخليج العربي وشرق أفريقيا وشمال أفريقيا.
كما أبدت تلك القوى انزعاجها من الوجود الروسي في غرب أفريقيا ووجودها المتمثل في قوات ڤاقنر والتي تعمل في تعدين الذهب في جمهورية أفريقيا الوسطى CAR.

ورغم ذلك قام حميدتي بزيارة لموسكو، بدأت قبل يوم واحد من انطلاق العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، واستمرت لمدة تسعة أيام لتنتهي يوم 2 مارس 2022.. وأثارت تلك الزيارة مزيداً من مخاوف الغرب تجاه حميدتي.
ومنذ منتصف العام الماضي أخذ حميدتي بالتدخل في دول جوار السودان، دون دراية بتعقيدات وتقاطعات المصالح الدولية في تلك المنطقة.
عقد حميدتي اتفاقاً غير معلن مع رئيس أفريقيا الوسطى لمكافحة قوات نور الدين آدم وعلي درّاس المتمردة عليه. وقام بالاتفاقية حسن بوبا وزير الثروة الحيوانية، الذي كلفه الرئيس بالقضاء على قوات الحركتين المتمردتين.
يسعى حميدتي للقضاء على الحركتين علماً بأنهما حركتان للدفاع عن حقوق المسلمين المضطهدين في أفريقيا الوسطى.

وفي ديسمبر الماضي قامت قوات الدعم السريع بإغلاق الحدود مع أفريقيا الوسطى، وأخفت أنها من بين إجراءاتها لمحاربة الحركتين المتمردتين في شمال شرق أفريقيا الوسطى.. وفي نفس الشهر عَبَرَ الوزير حسن بوبا الحدود ليلتقي سراً بقيادات عسكرية من الدعم السريع في ضواحي أم دافوق السودانية.

كما نصت الاتفاقية بين حميدتي وأفريقيا الوسطي على دعم جيش أفريقيا الوسطى، وحماية مناجم الذهب التي تعمل فيها ڤاقنر الروسية، ولذلك بعث حميدتي 500 من قواته لتقيم داخل أفريقيا الوسطى وعلى بعد كيلومتر من الحدود السودانية.
وبمعرفة حميدتي تساعد ڤاقنر مجموعات عربية متمردة على الرئيس التشادي محمد ديبي، واتخذت من منطقة وجود ڤاقنر قاعدة خلفية لها.
وقد صنفت أميركا ڤاقنر الروسية كمنظمة إجرامية Criminal Organization عابرة للحدود، وتعهدت بمكافحتها ومعاقبة من يتعاون معها، وفقا للمتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، في تصريح رسمي قبل بضعة أيام..
وهكذا يُعتبر حميدتي، من وجهة نظر أميركا، متعاوناً مع منظمة إجرامية عابرة للحدود.

وقد عبّرت أميركا عن انزعاجها من التعاون بين حميدتي وڤاقنر الروسية لمدير الاستخبارات العسكرية الفريق صبير خلال زيارته لواشنطن مؤخراً.

ووفقاً لتقرير مجموعة الأزمات الدولية ICG، مكن حميدتي مجموعة تشادية متمردة على محمد ديبي من إنشاء معسكر لها في دارفور، وفي أم دخن تحديداً.. وقد عبر ديبي عن انزعاجه من تحركات حميدتي العدوانية للدوائر العربية وكذلك للبرهان.

هكذا أثارت تدخلات حميدتي في تشاد، ودعمه لروسيا عبر ڤاقنر مخاوف الغربيين.
وأصدرت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي تغريدة تعبر عن:
«انزعاجها من تدخل حميدتي في دول هشّة مجاورة Fragile Neighbor، وقتله للمحتجين، وممارسة العنف في دارفور، وسرقته لثروات السودان، والتآمر مع مجموعة ڤاقنر، وممارسة الإبادة»!!
وتعتبر التغريدة بياناً لموقف صارم ضد حميدتي.
وكتب ضابط CIA السابق كاميرون هيدسون والمُلِم بتطورات الأوضاع في واشنطن، أن أميركا ربما تُنزل عقوبات مستهدفة Targeted Sanctions ضد حميدتي.
وترتباً على ما أوردناه أعلاه، تعتبر الدول الغربية حميدتي وقوات الدعم السريع مهددات لاستقرار دول الإقليم مثل تشاد وأفريقيا الوسطى، ومتعاوناً مع منظمة إجرامية، ومجرماً يقتل المحتجين، ويمارس الإبادة في دارفور، وينهب ثروات السودان.

ومعروف أن مصر ظلت متوجسة من حميدتي وقواته، وأعلن رئيسها أن بلاده لا تتعامل مع مليشيات !!!
وكان ملف حميدتي مثار خلاف دائم بين القاهرة وأبوظبي..
ولم تكن القاهرة مرتاحة من تقارب حميدتي مع أبي أحمد؛ نظراً لخلافات القاهرة مع أديس أبابا حول سد النهضة.
ومن المرجح أن استضافة القاهرة لورشة تناقش القضية السودانية والاتفاق الإطاري، دعت لها كل غرماء قحت وحميدتي السياسيين، من المرجح أن تتمخض النقاشات عن إضعاف الاتفاق الإطاري، وهذا ما تتخوف منه الأطراف السودانية الموقعة عليه، بما فيهم حميدتي.. وسيؤدي ذلك بالمحصلة إلى سحب البساط من تحت أرجل حميدتي.

وأعتقد أن القاهرة ما كانت ستُقدم على هذا التحرك من غير مباركة واشنطن التي تضيق بحميدتي، وتريد أن تبقى السيطرة للبرهان.
ولعل واشنطن قد اقتنعت أخيراً أن عملاءها (قحت بما في ذلك حزب الأمة جناح مريم) لن يستطيعوا أن يحكموا بطريقة تحقق أهدافها في بلد مستقر.

وخلال مسيرة حميدتي منذ سقوط البشير، فقد اتضح أن الأطراف اليسارية تتلاعب بحميدتي، وتُسخّر ثروته لمصالحها حين تحتاجه لتمويل أنشطتها، مثلما فعل في تمويل ورشة إخراج الاتفاق الإطاري عبر تسييرية المحامين. كما أنها تبتزه بملف فض الاعتصام.

وبسوء تدبيره ، وحداثة عهده بكيفيه إدارة الصراعات السياسية ، نَفّرَ حميدتي أهم وأكبر القوى والتيارات السياسية، وبقي محصوراً مع جماعة الاتفاق الإطاري الصغيرة.
وحقيقةً، فقد أظهرت فيديوهات متواترة أن قوات حميدتي تمارس القتل خارج نطاق القانون، ولمدنيين عُزّلا، وتنهب القرى في دارفور.
وحتى داخل العاصمة، تمارس قوات حميدتي التهديد والوعيد والابتزاز لتحوز على مباني ومنازل ترغب قياداتها في شرائها..
وتمارس نفس الأساليب مع رجال أعمال وشركات..
وتعتقل تلك القوات من يرغب حميدتي أو أخوه في اعتقاله، وتستغل بعض العناصر في النيابة أفسدتها لتحقيق مآربها.
أما المتعلمون والمثقفون فينظرون له كجاهل متسلط، أصبح أُلْعُوبةً في أيدي دولتين في جزيرة العرب لم تعهد التعبير عن الرأي الحر إلّا في ” دار الندوة ” ويضربون كفاً بكف ضاحكين كلما تحدث.

ومن غير سبب موضوعي، وإنما فقط استجابة لتعليمات بن زايد، وخوفاً من ضغوط اليساريين، جعل حميدتي الإسلاميين أعداءً له!!
ولبئس عاقبة معاداة بروفسورات في السياسة، من قبل طفل لا يزال في مرحلة «الحفاضات»، مع شديد اعتذاري للقراء الكرام.

أما الرأي العام السوداني فلم يعد يثق في حميدتي، نظراً لتصريحاته المتضاربة ومواقفه المتناقضة، واستخدامه المال لإفساد الساحة السياسية.
شيوخ الطرق الصوفية وعامة المتدينين، لم يعجبهم دعم حميدتي للتيار العلماني المعادي للدين والذي يرفض النص على الإسلام كدين الدولة واللغة العربية كلغتها السائدة.
وقد اتضح أن استخدام حميدتي لماله وتوزيعه للبكاسي لم يحقق له ولاءً حقيقياً مخلصاً.

أصبحت أميركا تفضل البرهان الآن.
وفي وقت تكتب الدول الأخرى اتفاقاتنا، وتُعَيّن حكامنا، لا أرجح أن تفيده أمواله ومنافسته للبرهان في الوصول للحكم!!!

وهكذا جنت على نفسها براقش السودانية !!!

ياسر أبّشر
———————————
28 يناير 2023

اترك رد