عبد الله حمزة يكتب : وداعاً معلمي

السودان

عبد الله حمزة يكتب : وداعاً معلمي

أول عهدي بالدكتور حسن الترابي كان في مسجد جامعة الخرطوم وأنا طالب بجامعة جوبا، ما جمعنا كان قيام الليل الذي نُدعي اليه كل حين من الزملاء، وعلى الرغم من احترامي وتقديري بل وحبي للكثيرين منهم ، إلا أني كنت أري في بعضهم تخلفاً عن روح العصر وأرى فيهم غلظة لا تليق بمن يدعي حمل الرسالة، لذلك كانت مشاركتي محدودة تركزت في الصيام وحلقات التلاوة ومحاولات كسر الحواجز مع الاخوة من جنوب الوطن. تلك الليلة كانت الصلاة طويلة وكنت أتململ من التعب، بينما وقف بجانبي هذا الشيخ الكبير الهزيل ساكنا لا يلفته عن صلاته شيء، مما يوحي بانه اعتاد على ذلك. بعد انتهاء الصلاة احسست انه ما زال بكامل حيويته بل بدا قادراً على المواصلة . خجلت من نفسي أيما خجل فقد أعجزني أن اقوم مثله وانا في عنفوان الشباب.

اللقاء الثاني كان دعوة تناول افطار رمضان وجهت لمن قدموا من مناطق العمليات قبل المفاصلة بوقت طويل، وكالعادة جلسنا نستمع بلهفة وتشوق لحديث الدكتور . في ذلك اللقاء تحدث موجهاً صوت لوم للمجاهدين وقال لهم انتم مصرون على الذهاب وعلى المشاركة في العمليات والاستشهاد ولكن الذين تتركونهم ليتولوا مقاليد الامور من ورائكم أناس ليسوا بمقدار تجردكم ولم يصلوا لهذه المرحلة التي وصلتموها وهي ذروة سنام الإسلام وبالتالي تضيع القيم التي تبحثون عنها… نوعاً ما كان الترابي يعتب على الشباب ابتعداهم عن الساحات الأخري وحرصهم على الجهاد.

لما جأت فقرة الأناشيد كما جرت العادة تغني الحضور بالاناشيد من شاكلة “كلم الرشاش قولو لا تنسى” و “والله الحياة لا تساوي ذبابة إلا بالنار والمدفع والدبابة”، أذكر أن الشيخ الترابي انتقدها وطالب بان يتغني الناس بالقيم التي يهدفون إلى إنزالها في ارض الواقع بدلاً من صور الموت والعنف تلك.فقمت بعملية جرد سريعة في رأسي للاناشيد التي أحفظها فوجدت فعلاً أن أغلبها تدور حول الاستشهاد والقتال وقليل منها يتحدث عن قيمة وعن مثال يهدف اليه كل هذا. كبر الرجل وزاد احترامه في عيني في ذلك اليوم الذي لم ينتهي بعد فقد طلب أن يؤمنا في صلاة المغرب أحد الشباب ، وكان من أئمتنا فتلا سورة مريم وتلعثم فيها، وبعد إنتهاء الصلاة ، ابدى دهشته من ان يتلعثم مجاهد في سورة مريم وهي السورة السهلة من القرآن، وقال بأن علاقتنا مع القرآن تحتاج لمراجعة، واستنكر أن يكون ذلك ممن هم في ذروة سنام الإسلام. قال لنا أن هذا القرأن رسالة الله لنا ويجب أن تكون علاقتنا معه أكبر، وأن نكون معه باستمرار تلاوة وتدبراً وإذا اشكل علينا في فهمه شيء استعنا بأصحابنا إبن كثير والجلالين وغيرهم من كُتاب التفاسير ليعينونا على فهمه. أصر الترابي يومها بأن يصلي كل منا بالجماعة ركعتين، ولا أدري كم ركعة كنا سنصليها لو استجاب الناس لرغبته تلك. بعد هذا اللقاء ولفترة طويلة لم يكن المصحف الصغير الحجم يغادر جيبي حيثما ذهبت.
من المواضيع التي تطرق لها أيضاً تحذيره من البترول الذي كان السودان جديد العهد به ان يسود قلوب الناس وضرب مثلاً بالفلاتا وتدينهم وتاريخهم المشرق في الدين وما آل اليه حال بعض دولهم.

مرت الأيام وجأت المفاصلة، وأُمرنا حيث كنا أن نبقى على الحياد، ونشط دعاة الفتن وسقطت وتهاوت عندي شخوص كنت اعدها من الصادقين وأنا أراها تتجسس على من كان بالأمس أخ ورفيق. يا لبشاعة الوجوه حين سقطت منها الاقنعة، مستوى من السقوط لا يخطر على بال وتفاصيل أربأ بكم عن سماعها. أذكر أنني قلت لبعض الرفاق أنني لا أفهم كثيراً في السياسة ولكني ساميل إلى الفئة التي مال إليها أكثر حفظة القرآن الكريم، وكانت هذه الفئة فئة استاذي والمعلم الدكتور حسن الترابي. ملت إليها ولم التحق بصفوفها تنظيماً وكنت احترم وأود قياداتها ومنتسبيها. أما الطرف الآخر فهناك مشكلة حقيقية في أكثرهم في نظرى لذلك احتفظت لبعضهم بشيء من الود القديم على استحياء وتجنبت منهم الكثير.

أخر مرة التقيت فيها بالترابي في منزله لعلها في 2003 في سياق مختلف، وحينما دلفنا إلى صالونه لم يكن موجوداً فيه، بل كان في غرفة الدراسة الخاصة به بحسب ما علمنا، فجلسنا ننتظره ، دقائق وخرج الينا وبعد السلام جلسنا، كان يبدو لي كأنه في واد آخر، وصدق حدثي فما هي إلا لحظات حتي بادرنا قائلاً: (والله صورة هود دي عجيبة خلاص) وبدا يتحدث عنها بحماس عجيب فاستنتجت أنه كان يدرسها في خلوته . كالعادة لا تخلو مثل هذه الجلسات من بعض الذين امتهنوا نقل الأخبار والوشايا، بدأ شخص انضم إلى الجلسة في رواية أشياء حدثت في الطرف الأخر وبالطبع هو شاهد عليها. لم يعجبني الرجل البتة وكنت انقل بصري بينه وبين الشيخ مشفقاً على الأخير من اضطراره لمجالسة مثل هذا الرجل، شيئاً ما طمئنتني ابتسامة الترابي التي أعطتني إنطباعاً بانه سمع وما صدق.

هو حديث نحكيه من باب الشهادة بالحق واعذرونا أن لا نحكي غيره ، وأقول للإخوة الكرام في الطرف الآخر خاصة، أتفهم موقفكم ولا أطالبكم بتغييره فأنتم أحرار، وبالمقابل تفهموا موقفي من رجل اعتبره المعلم والمثال…حريص انا عليكم ولكن عذراً لن اتبني موقفكم لتسعدوا ولن ألبس قناعاً لكي لا أخدش مشاعركم….دمتم

اترك رد