قراءة في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”

السودان

رصد : الرآية نيوز

بمناسبة ذكرى وفاة الأديب والروائي الطيب صالح

قراءة في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”

حسن يحيى حسن

الطيب صالح شخصية غنية عن التعريف فمولده ونشأته في قرية “كرمكول ” شمال السودان ساهم وبشكل كبير في نسج وجدانه وخياليه الأدبي ودراسته في لندن قد عرّفته على صور الحضارة الغربية والنظر لها عن قرب.

تدور أحداث حول شخصية مغمورة “مصطفى سعيد ” فالحاكي هو الراوي نفسه لكن للطيب صالح قدرة أدبية على الانتقال سريعًا بين الأحداث دون تشتيت انتباه القارئ، فمصطفى سعيد شخصية ظهر عليها النبوغ والنباهة منذ الصغر والتفوق في الدراسة وتحديدًا الحساب وهذا ما ساعده على إكمال دراسته في جامعة أكسفورد والوجه الأخر من مصطفى سعيد شخصية تعشق اللهو والعبث بالفتيات البيض فعندما قال ” سوف أجعلك عاهرة على فراشي” هنا قام بمحاكمة الواقع الغربي بالقيم الشرقية والعربية فهذه الفتاة ليست عاهرة حسب الأعراف الأوربية فهذه حريتها باعتبارها اما هنا في الشرق تُعتبر عاهرة لأنها ليست متزوجة به. فهنا يظهر أن مصطفى سعيد يعمل بغضًا كبيرًا اتجاه الاستعمار البريطاني وأراد أن ينتقم على طريقته الخاصة ” نعم يا سادتي إني جئتكم غازيًا في عقر داركم، قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ” وبعدها يعود مصطفى سعيد للعيش ببساطه في إحدى قرى شمال السودان ويستقر ويتزوج هنالك.

فشخصية مصطفى سعيد هذه ليست شخصية الطيب صالح فالطيب صالح لم يدرس الاقتصاد ولم يكن بارعًا في الرياضيات بل هي شخصية كوّنها الطيب صالح من نسج خياله لكنه أخذ بعض الملامح من شخصيات سودانية حقيقية عاشت في المجتمع البريطاني كإسماعيل فوزي الذي درس الاقتصاد في لندن و كالأديب عبدالله الطيب فالغرفة المذكورة في الرواية ” ثلاثية الشكل الموجودة بعيدًا عن المنزل وبداخلها كتب كثيرة ومقتنيات قيّمة فعبدالله الطيب لديه مثلها وبأدق التفاصيل التي وصفها الطيب صالح في روايته وهذا علمته من حديث زوجته البريطانية جرينليدا.

فرواية موسم الهجرة إلى الشمال تم تصنيفها ضمن” أدب ما بعد الاستعمار ” فالرواية تحمل صورًا انتقامية كما ذكرت أعلاه ومثالاً الحديث الذي دار بين الراوي والمفتش الانجليزي في عربة القطار وقد قال له الراوي أنكم صنعتم السكة حديد لتنقلوا جنودكم وبناء المدارس والمعاهد لتعلمونا كيف نقول نعم بلغتكم! وصورًا أخرى تتحدث عن استنفاذ موارد السودان وعلمية تغريب السودانيين وتحمل الراية أيضاً اعتزازًا ببساطة وكرامة وقيم وأخلاق السودانيين وفيها دعوة للاستقلال الحقيقي والتحرر من الهيمنة الغربية. فهذه الرواية لا تقل عن كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد أو كتاب المعذبون في الأرض لفرانز فانون وقال عنها إدوارد سعيد في كتابه “الثقافة الإمبريالية” بأنها نموذجاً للكتابة المضادة الخطاب السردي الإمبريالي “write back” وهذا ما تجده عند العديد من الكتاب كنقوقي واسنقو واشنوا اشيبي.

فرواية موسم الهجرة إلى الشمال تشابه العديد من الروايات كرواية الأديب النيجيري شينوا اشيبي “الأشياء تتداعى” things fall a part ” التي تحكي عن غزو الاستعمار البريطاني لأحدى مقاطعات نيجيريا في قرية اموفيا وبطل الرواية” أكونغو ” الذي مات منتحراً بعد قتله لأحد الإنجليز احتجاجا على ممارستهم العنصرية وعملية مسخ الهوية والتيسير بالمسيحية وبعدها تتداعى هذه القيم الموجودة لديهم والدين الوثني وتحل محلها القيم الغربية والديانة المسيحية.

وعند الاطلاع على رواية الكاتب البريطاني كونراد” قلب الظلام”
the heart of darkness” نجد صورة معكوسة لرواية موسم الهجرة إلى الشمال فالراوي يحكي عن رحلتهم إلى نهر الكونغو في دولة الكونغو في قلب أفريقيا ليشهد بطل الرواية عمليات الإبادة والاستعباد التي مارسها البريطانيين على الأفارقة ليتحول البطل من شخصية استعمارية لشخصية إنسانية تندد بأشكال الاستعمار والدمار الذي سببه في أفريقيا.

تُعد موسم الهجرة إلى الشمال من الروايات العربية الأكثر انتشارًا في العالم لتحمل أوجه كثيرة بلغة بسيطة وممتعة وهو ما سموه ” السهل الممتنع” فهذه الفصاحة اللغوية والخيال الأدبي الموجود عند الطيب الصالح أعطى الرواية مذاقها الخاص والمحاولات التصويرية لبيئة شمال السودان فكل شخص زار شمال السودان قد يعرف قدرة الطيب صالح التصويرية هذه وعبقريته في تحويل المنظر الطبيعي والمواقف البسيطة بين الناس إلى نص أدبي وعمل روائي رائع.

اترك رد