“غازي صلاح الدين” يكتب ناعياً بكلمات مؤثرة فقيد البلاد صهره د.”إبراهيم هباني”

بسم الله الرحمن الرحيم

إبراهيم الذي كان.. ما زال!

كان الأخ إبراهيم يوسف هباني، ولا نتألى على الله ولا نزكي عليه أحدا، رجلا تشرب بمشارب الخير مما لا يحصيه حتى الذين عرفوه وصاحبوه. نشأ في بيت زعامة تعلم فيه حسن العشرة والصبر على أذى الخلق وحاجاتهم التي لا تنقضي. ونشأ في النيل الأبيض، وهي من مناطق السودان التي عرفت تسامحاً، لا تعكره العصبيات المذهبية ولا الجهوية. نشأ في محيط فيه الأنصار والختمية والسمانية والتجانية والقادرية، وفيه حزب الأمة كما فيه الاتحاديون، وتربى هو في الحركة الإسلامية وظل حفيظا على مبادئها، ظهيراً وسنداً للحوار وداعيا للوحدة بين السودانيين والقوى الوطنية كلها.

نشأ في كنف والده الشيخ يوسف إدريس هباني، ناظر الحسانية والحسنات، الذي اشتهر بأنه من أكثر رجالات الإدارة الأهلية حنكة وتجربة، فتعلم منه إبراهيم الكثير من الحكمة التي لا يتاح تحصيلها لمن طلبها في المدارس النظامية.

بعد إتمام تعليمه الثانوي بالدويم، ذهب إلى مصر في ثمانينات القرن الماضي حيث درس الصيدلة في جامعة الزقازيق، وفي نفس تلك المدة درس القانون في جامعة الإسكندرية. ولكن نشاطه في العمل العام وفي قيادة الطلاب السودانيين في مصر أنطلق بصورة أساسية من جامعة الزقازيق التي بفضل مديرها، المعلم الكبير المتعاطف مع السودان والسودانيين، الأستاذ طلبة عويضة، تلقى مئات السودانيين تعليمهم فيها حتى صارت المحور الرئيسي للنشاط السياسي للطلاب السودانيين. في تلك الفترة نضجت ملكات إبراهيم في القيادة من خلال الدور الكبير الذي كان يطلع به في الساحة العامة.

في فترة الإنقاذ، نشط إبراهيم في العمل السياسي، خاصة ما يربطه بالناس وحاجاتهم، وليس العمل المكتبي الديواني وحده. عمل نائباً لوالي ولاية كردفان الكبرى، ثم معتمدا للدامر، ثم معتمدًا للدويم، ثم انتخب للمجلس الوطني من ١٩٩٥ إلى ١٩٩٩ ثم انتخب لمجلس الولايات وصار نائبا لرئيس مجلس الولايات.

ولما كان مفطوراً على التدين مجبولا على السماحة فقد تباعد عن الخلافات التي ضربت الحركة الإسلامية في تلك السنوات، وذلك بعد أن استفرغ جهده في إصلاح ما بين أطرافها. لكن إبراهيم ما توقف عن العطاء في العمل العام حتى آخر أيامه حينما شهد له الناس بسعيه المستميت في إنجاح الحوار الوطني، تجنباً للصراع والدماء، كما حدث فعلا، تشهد بذلك أحداث هذه الأيام.

مما يذكر لإبراهيم دليلا على تدينه وشجاعته أنه عندما اكتشف إصابته بهبوط الكبد، وكان هبوطاً متسارعا، وكان أهله وأصدقاؤه يحضونه على الإسراع بالسفر إلى الهند حيث يوجد واحد من أشهر مراكز نقل الكبد في العالم. بدا إبراهيم غير آبه بإطلالة الموت من قريب. ولما كثر إلحاح الأهل عليه في هذه المسألة رد رداً حازما “أنا ما بسافر كان ما رتبت أموري”.

إبراهيم كان يرتب للآخرة لا للدنيا، ولو أنه قدم الدنيا لكان العلاج سابقا لسداد الديون وفرز الشراكات والوفاء بالعقود. في تلك السويعات المتبقية من عمره، كان غير آبه للموت حتى وإن مشى الموت محاذياً له في الطريق.

وعند إقامة صلاة الجمعة في الهند، في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر ٢٠٢١، الموافق ٢٧ جمادى الأولى ١٤٤٣ هجرية والسماء ترسل زخات من مطر خفيف، همد الجسد وفاضت الروح وسكنت في الوجه ابتسامة وضيئة.

أذهلني قول النائحة “الليلة يا إبراهيم …قطعت بي وين؟”، حقاً كيف أفلت إبراهيم وبأي جهة قطع. هل تراه قطع عبر البحر الذي أمامنا، أم سلك الوادي إلى اليمين، أم صعد إلى قفا الجبال عن الشمال، أم تراه احتوته غيمة سماوية، أم ساقه ملك إلى موعد مع مليك مقتدر؟

هكذا كان إبراهيم، وهو على ما كان باق، ظل حتى البرهة الأخيرة الباقية من حياته عاضاً على مبادئه، ثابتا على إيمانه بأن الحق منتصر، تدفعه نحو آفاق جديدة رمزية ودلالات عميقة، فهل يعي إخوانه الدروس التي تركها خلفه؟

غازي صلاح الدين العتباني
٣ يناير ٢٠٢٢

تعليقات (0)
أضف تعليق