الخرطوم | الرآية نيوز
يتساءل الكثيرون عن سر رد فعل الإسلاميين العاقل على التغيير الذي حدث … هذه الأسئلة تسبقها أسئلة أخرى بعضها سابق لمجئ الإنقاذ : لماذا كانت الجبهة القومية الإسلامية تعارض حكومة الصادق المهدي ومع ذلك تقف معها ضد التدخلات والضغوط الخارجية، وتقف معها وتدعمها بقوة في معركتها ضد المتمردين ؟ … إلى آخر الأسئلة التي يمكن إجمالها تحت العنوان العريض ( الإهتمام الكبير بالمخاطر الكبرى على البلد .. وتحسسها والشعور بها من على البعد، وبعضها لا يمس الإسلاميين خاصة دون غيرهم، والوقوف إزاءها الموقف الذي يرجح مصلحة المجموع على المصلحة الحزبية الضيقة )
وبالمقابل : لماذا كان الحزب الشيوعي، معه سائر أحزاب الفكة اليسارية، أقل مسؤولية وأقل حساسية تجاه مهددات الأمن القومي في كل الحقب ؟ لماذا كان أكثر تهورا مما جعله يعول على المتمردين من قبل مجئ حكومة المهدي وأثناءها وبعدها وحتى الآن ؟ لماذا كان في طليعة المؤيدين للعقوبات وللتدخلات الخارجية من دول الجوار ومن الإمبريالية ؟ لماذا يؤيد الحركات الجهوية والعنصرية ولا يهتم بارتباطاتها وتهديداتها للسلم ومخاطرها على وحدة البلاد ؟ لماذا كان صقور الحركة الشعبية الإنفصاليين هم الأقرب إليه ؟ لماذا انتدب عددا من كوادره لحركات التمرد وبعضها مرتبط مباشرة بالإمبريالية العالمية وبإسرائيل واللوبي الصهيوني في أمريكا؟ .. إلى آخر الأسئلة التي يمكن وضعها جميعا تحت عنوان ( عدم الإهتمام بالمخاطر الكبرى على البلد وأحيانا عدم الإحساس بها .. وانحصار الاهتمام في الخطر الذي يمس الحزب مباشرة وهو الخطر الذي يقترب إلى مسافة قريبة جدا من الحزب) ..
وهذه محاولة متواضعة لتفسير هذه الفروقات :
◼الأحزاب الكبيرة تشعر بالمخاطر القريبة والبعيدة، وهي لكبر حجمها ستهتم بمصالح جمهورها الواسع الأمر الذي يجعل مصالحها تقترب من أن تتطابق مع المصالح الوطنية الكبرى عكس الأحزاب الصغيرة ذات الجمهور المحدود.. والشعور بالمخاطر من على البعد وعلاقته الطردية بالحجم كان من السنن التي لاحظها (هيدجر) وتحدث عن انطباقها على البشر وعلى الحيوانات أيضا ..يقول هيدجر “كما نقل عنه د. عبد الكريم بكار” : (إن المسافة الحرجة للحيوانات، التي لدي معلومات عنها، دقيقة جدا إلى درجة يمكن قياسها بالسنتمترات … مثلا المسافة الحرجة/ مسافة الأمان للبقر الوحشي 500 ياردة، ولسحلية الحائظ 6 أقدام ) .
استناداً على ملاحظة هيدجر الذكية يمكن القول :
▪️ إن للفيل مسافة أمان أكبر من تلك التي للنملة .. وأيما عدو يدخل في هذه المسافة سيتنبه له الفيل، بينما النملة لا يهمها الخطر الكبير الذي يهدد غيرها كالأسد مثلا . ولا يهمها إلا العدو المباشر الذي يقترب منها كثيراً، وحتى في هذه الحالة تملك هي ميزة الإختباء في شق صخرة أو شجرة ..
▪️ شعور الفيل بالخطر واتخاذه للخطوات اللازمة للحماية كالتحفز واصدار الأصوات التحذيرية أو حتى الهروب ينبه كثيراً من الحيوانات الأخرى ويجعلها تحتاط لنفسها وفي هذا حماية لعدد أكبر من الحيوانات ..
▪️ للفيل أعداء مشتركين مع طائفة واسعة من الحيوانات كبيرة الحجم ومتوسطة وصغيرة الحجم نسبيا ولذلك فإن تنبهه للمخاطر سيكون أكثر من تنبه النملة وأكثر فائدة لغيره، وهذا ينطبق بحذافيره على الأحزاب.
◼ هناك قاعدة أو سنة تتعلق بالعلاقة الطردية بين الضخامة والحذر والضخامة والعقلانية.. وهذه السنة مفادها أن الجماعة أو الحزب الأكبر عادة أكثر حذرا وأكثر عقلانية وأقل تطرفا .. لأنه أصلا أصبح كبيرا بأفكاره الأكثر مقبولية والأقل تطرفا .. وبالتالي آلية اتخاذ القرار داخله ستراعي مصالح قاعدة أكبر وتيارات أكثر موجودة داخله أو بجواره، ولذلك سيبتعد تلقائيا عن القرارات الجذرية المتطرفة التي تمس مصالح بعض التيارات داخل الحزب وتمس مصالح جمهور واسع خارج الحزب لم يقطع الحزب العشم في استمالته يوما ما. ولذلك ستكون مواقفه محكومة بتحقيق مصالح أكبر عدد من الجماهير، ومحكومة بالعقلانية والقابلية للتسويق ..
▪️ الأحزاب المتطرفة الصغيرة المهجوسة بمصالحها المباشرة، والتي تعلم بوار فكرتها ستبحث عن تكبير الكوم بكل الوسائل غير الشريفة، والتي قد تتعارض مع مصالح جمهور واسع لكنها تحاول إثبات العكس بطرق احتيالية، فالهدف هو وصول هذه الأقلية إلى السلطة، ولن يكون ذلك إلا بفاولات كثيرة ومواقف تركز على المصلحة الحزبية المباشرة . لأن الحزب بحجمه الصغير إن أضاع السوانح والفرص بإلتزامه بالمواقف العقلانية أو المواقف التي تراعي المصالح الكبرى للوطن على حساب مصالح الحزب المباشرة، فسيطول انتظاره وسيشعر بأنه يبتعد بذلك عن هدفه .
◼ الجماعات الصغيرة ينتج صغرها اصلاً من فكرتها المتطرفة غير القابلة للتسويق الواسع. هذا التطرف يجعل أصحابه مسجونين في سجن المصالح المباشرة للجماعة، ولا تيارات داخل الجماعة يراعيها الحزب عند اتخاذ المواقف، ولا خوف من خسارة بعض الجمهور، فالجمهور الفعلي القليل مضمون وهو على استعداد لتقبل كل المواقف مهما كانت ما دامت ستصب في مصلحة الجماعة الصغيرة، وحنى بعض المواقف التي يتضرر منها الوطن كله لن يهمهم نتائجها ما دامت هي خطوة في طريق إجباري لا بد للحزب الصغير أن بسلكه ليضع نفسه في الصدارة التي يعجز عنها بالطرق التي تراعي مصالح أوسع من مصلحة الأقلية.. ولعل في هذا تفسير معقول لمعظم سلوك أحزاب الفكة المؤدلجة كالشيوعي والبعث والناصري والجمهوري خاصةً فيما يتعلق بفوبيا الانتخابات.
◼الحزب الكبير قد يكتفي بمكاسب غير مباشرة لا تخصه وحده وإنما تخص فكرته التي قد يشاطره فيها كثير من غير المنتمين له، فمثلا كثير من الإسلاميين همهم الأول الآن أن لا تتغير التشريعات لتصبح علمانية، وقد هللوا للمجلس العسكري الذي أسقط نظامهم عندما صرح ، في أيام التفاوض مع قحت، بأنه لا يوافق على إبعاد الشريعة من مصادر التشريع، اهتموا بهذا المبدأ الذي يعبر عن غالبية السودانيين أكثر من اهتمامهم بمن يخلفهم في الحكم ما دام أنه يلتزم بذلك .. ولو كانت المسألة لديهم مسألة مصلحة ذاتية مباشرة لكانوا قد انشغلوا بالتشكيك في جدية المجلس العسكري وبالقول بأن قوى قحت ستفرغ أي التزام بحاكمية الشريعة من مضمونه وستتحايل عليه وتلغيه عمليا في التشريعات ناهيك عن تطبيقها..
▪️ لو كان الأمر أمر مصلحة خاصة لا مبدأ فمن مصلحة الإسلاميين أن تكون حكومة قحت علمانية متطرفة الأمر الذي يسهل معارضتها وفضحها أمام الرأي العام، الأمر الذي يحفظ للإسلاميين تميزهم، فلو أن قحت كانت قد التزمت بحاكمية الشريعة فستكون بذلك قد سحبت من الإسلاميين ورقة مهمة وكرت رابح ، ولن يفيد الإسلاميين كثيرا التشكيك في مدى جديتها ومدى التزامها بتطبيق ذلك، فعندما ينتقل الجدل إلى منطقة التطبيق سيكونوا قد تساووا -نظريا على الأقل – مع قحت، فتطبيق الإسلاميين لحاكمية الشريعة أيضا كان محل انتقادات مشروعة استغلتها قحت وتحايلت بها لرفض الشريعة كلها لا مجرد انتقاد تطبيق الإسلاميين لها.
◼الحجم الكبير للأحزاب مظنة العقلانية بسبب كثرة القيادات ومن ثم كبر العقل الجمعي الحزبي ومن ثم كثرة المصححين والمحذرين والممحصين للقرارات .. عكس الأحزاب الصغيرة حيث المركزية القابضة والعضوية الصغيرة التي تسهل السيطرة عليها وتسويق التهورات لها والحجة الدائمة هي المصلحة الحزبية .