الخرطوم : الرآية نيوز
دكتور ياسر أبّشر يكتب :
دعوا البَوْ يمضي
حين يموت حيوان صغير، يُسلخ جلده ويُحشى بعناية، وهذا يسمى (البَوْ) ويسمى (العَبُوب).. و(البَوْ) كلمة فصيحة.. يُوقَف البو/ العبوب أمام أمّه فتشُمه وتلحسه فتُدِرُّ لبناً. البَوْ جلدٌ فارغٌ إلّا من قش أو تِبْن .
حين قام اللواء بكراوي بتحركه دفع بمدرعتين لمعسكر قوات حميدتي في غرب أمدرمان، فما كان من جنوده إلا أن قفزوا عبر السور، ووَلّوا الأدبار هربا.
وتذكرون حديثه لقواته في معسكره بالجيلي لدى هروب عناصر قواته التي رجعت من اليمن.
كلا الحادثتين وغيرها كثير تبين أن تلك القوات بلا عقيدة قتالية كافية.
اقتتلت قبيلتان بالبطانة وذهب المحافظ وقتها ليُصلح بينهما فلم يُفلح، ونصحه أحد العقلاء أن يبعث لهما وفد من «ناس مَسْمِيين» لا أن يبعث تُجّار وأصحاب أموال. وبالفعل بعث المحافظ شيوخ المجاذيب بالقضارف، فحقنوا الدماء، وأصلحوا بينهما.
وهكذا يظل تأثير «الناس المَسْمِيين» في كل السودان قوياً وفاعلاً.. وهؤلاء «المَسْمِيين» لا تصنعهم أموال، ولا يجعلهم المجتمع «مَسْمِيين» بتأثير قرار حكومي.
وبين الرزيقات، ظل الشيخ موسى هلال مَسْمِيّاً، مُقَدّماً كزعيم بَزَغَ نجمه بصورة طبيعية وسط قومه، من بيت زعامة. وكانت هذه الزعامة الطبيعية الراسخة تغيظ حميدتي وشقيقه عبد الرحيم، ويضيقان بها ذرعا.. وقد علمت أن أقدامهما حفيت في التردد على مسؤولين وقتها يحثونهم لإصدار قرارٍ بنزع الشياخة من موسى هلال.. وكان موسى هلال وقتها مسجوناً.. لكنهما أُبلغا أن قانون الحكم الفدرالي والولائي لا يسمحان بنزع الشياخة، كونها تَرسخت بناءً على تقاليد قبلية اجتماعية، وأن أي قرار رسمي في هذا الصدد سيكون حِراثةً في الماء..
حميدتي وشقيقه يعلمان أن مقامهما القبلي لا يؤهلهما لتَسَنّم الزعامة القبلية حتى وسط عشيرتهم.
ظلت كل الدول تتخذ ظهيراً شعبياً لجيوشها.. وبقي الدعم السريع في زمن البشير تحت السيطرة تماماً، ولا يقوى حميدتي أن يرفع أصبعه دون إذن. هذا رغم أن البشير أخطأ حين جعل له قانوناً خاصاً. ولكن حميدتي انتفش بعد (الثورة).
كان من أكبر الأخطاء، التي حدثت تحويل حميدتي من قائد مليشيا إلى سياسي ومن قيادات الدولة كبيرة النفوذ، وأصبح الأمر كأن للدولة رأسين.. وبعد أن جَرَتْ أموال ود زايد بين يديه ومن خلفه، ظن أنها ستصنع منه زعيماً. ولأن المال يجعل المنافقين يتهافتون على صاحبه، اجتمع حول حميدتي المنافقون يضللونه ويمجدونه، حتى ظن أنه زعيم.. ومن أحاديثه وتصريحاته يبدو أنه تَوَهّم أنه سيغدو بمالِه رئيساً على السودان بانتخابات!!!
ونعلم وتعلمون أن بابو نمر لم يتخرج من أكسفورد.. ولم يدرس ود الجبوري الكبير في كلية القانون بجامعة الخرطوم.. ولم يعاصر السيسي الكبير الترابي في السوربون.. كما أن ود أب سن لم ير هارفارد.. ولكن الحكمة والمعرفة والدُّرْبَة التي تمتع بها هؤلاء في إدارة شأن الناس تفوق ما لدى خريجي الجامعات الكُبرى.
فهل لدى حميدتي شيء من تلك الدُّرْبَة والمعرفة والحكمة؟؟!!
وبلغني أن شيخ موسى هلال حذّر أهل الإنقاذ، رغم العداوة التي نشبت بينه وبينهم – حين رآهم يعظمون حميدتي – من الاعتماد عليه، وأنذرهم أن حميدتي ليس لديه وازع قبلي أو خُلُقِي يصده ويردعه من أن يبيعهم في أول مفترق.. ولكنهم لم يستبينوا النصح إلّا ضحي الإطاحة، ذلك لأن «المكتولة ما بتسمع الصايحة».
وها هو يسخر منهم ويتندر عليهم: «شايف الجماعة ديل نعنشوا اليومين ديل»، بل يعظهم عن الدين الحق!!!
وفي هذا الصدد أيضاً، أعجبتني تغريدة للصحفي الشجاع الهندي يقول فيها: «أمانة في ذمتك يا سيادة الفريق حميدتي… يوم واحد في زمن الإنقاذ لقيت الموية قاطعة في بيتك في جبرة»؟!!
ثم تأكدت نبوءة شيخ موسى هلال عن غدر حميدتي بصورة أشمل وأفظع حين اتفق مع الحركات المسلحة في جوبا أن يأتلف معهم ضد «الجلابة»، وفقاً لتقرير فريق الأمم المتحدة، الذي كان حاضراً في مفاوضات جوبا والذي كنت أوردت رقمه وتاريخه في مقال سابق!!
ورغم تقرير الأمم المتحدة هذا، يُنكر حميدتي اليوم ذلك!!!
وأحاديث أن حميدتي وعبد الرحيم يعدان العُدة للغدر بالجيش.
وثبت بنبوءة شيخ موسى أنه يعرف من حوله، وأثبت أن «أولاد القبايل» لا يخونون ولا يغدرون، فقد تَشَرّبوا قيماً رفيعة، كابراً عن كابر.
بذل حميدتي ملايين الدولارات، أنفقها على شيوخ قبائل وشيوخ دين، وأنفقها على صحفيين وعلى ناشطين وسياسيين في أحزاب قحت (الله يكرم السامعين) ولكنهم «أكلوا تورهم وأدّوا زولهم»، ولم (يرفعوا مِنّو)، ولم تجعل منه الملايين زعيماً، بل ظل أكثرهم يسخر منه ويتوعده.
وحين يتحدث حميدتي عن قياس الماء «بالمتر الـمُرَبّع» يضحكون منه، فهو عندهم عجلٌ جسدٌ له خوار !!! وذلك هو الخُسران الـمُبين.. وبقي هو يخافهم ويخاف مما أسماه «السكاكين يَسِنُوها».
قال لي رجل أعمال، يملك مزرعة إنه علم بمصادرة مزرعته – قبل إصدار القرار وإذاعته – بوصول قوات حميدتي للمزرعة واحتلالها.
وسمعت من ضابط بالمعاش أن مخابرات حميدتي سجنته عاماً كاملاً.
ومعروف تعامل حميدتي وعبد الرحيم في إفساد النيابة، وحصولهم على دفاتر القبض موقعة وممضية.
وكان له معتقل.
وهكذا كان حميدتي بأفعاله جزءاً لا يتجزأ من فِعال لجنة التمكين.. وهو اليوم يتملص منها، ويتحدث دون حياء عن العدالة، وعن رفضه فصل لجنة التمكين للموظفين، وعن فشل الخدمة المدنية، وهو نائب الرئيس طيلة ثلاث سنوات!!
يقيني أنه كلما تطاول بقاء حميدتي في المشهد السياسي أفسد البيئة السياسية بالمال السياسي.
ولحميدتي دائماً حديثان: فحديثه في «الزّنقة» غير حديثه في غيرها.
حميدتي يكذب، شأنه شأن قحت (الله يكرم السامعين).. فمثلاً كان يقول: «الشريعة خط أحمر»، فلما انتهكت قوانينها وعُيّنت مسؤولة عن شؤون السحاقيات وقوم لوط لم نُحس منه شيئاً، ولم نسمع له رِكْزَا.
قبل (الثورة) كان حميدتي معقولاً متواضعاً وفي حجمه، يقوم بدور رُسم له، وإن أخطأ وتجاوز في بعضه.
وبعدها بمدة سلط القحاتة (الله يكرم السامعين) عليه آلتهم الإعلامية، فسبوه وتوعدوه وأخافوه.. وحاول جاهداً أن يسترضيهم ويتقرّب إليهم، فلم يُفلِح.
وبعدها، أثرى حميدتي من أموال العرب وذهب جبل عامر.
كل هذه التطورات كانت أثقالاً على حميدتي، فاضطرب، وغدت تتنازعه شخصية السياسي، وشخصية قائد الدعم السريع، وشخصية الثري صاحب ملايين الدولارات.
الرجل الآن منازع، ومضطرب، وخائف يتوسّل بالحِجْبَات ، لذا تراه كل يوم هو في شان.
لعل العقل يقول: طمئنوا حميدتي على مستقبله، من أجل مستقبل السودان.. قولوا له: «عفا الله عمّا سلف».. فالرجل خائف يترقب من السكاكين التي تُسَن، كما قال.
وأمام القوات المسلحة ليس لدى حميدتي قوة.
وبين القبائل ليس لحميدتي زعامة؛ لأن زعامة القبائل لا تُشترى بالذهب.
وليس له دراية ودُرْبَة قادتنا القبليين الذين نعرفهم.
وليس له علم الـمُتعلمين.
حميدتي لا يعدو أن يكون بَوّاً (عبوباً).
دعوا البو يمضي، والعفو والعافية.
دكتور ياسر أبّشر
———————————
19 أبريل 2022م