الخرطوم : الراية نيوز
العبيد أحمد مروح يكتب :
سحر الثورة الذي أبطله الواقع !!.
(1)
لم تتوفر حتى الآن دراسة منهجية وافية لتشريح وتوصيف الأحداث السياسية التي شهدها السودان منذ أواخر العام 2018م وحتى تاريخه، وبالتالي استنتاج تعريف جامع مانع لما حدث ويحدث، هل هو ثورة أم انتفاضة أم حراك شعبي، وماهي درجة أصالته أو صناعته، وإلى ماذا نَرُد النتائج التي انتهى إليها أو كاد. فكل الدراسات التي صدرت وأمكن الإطلاع عليها أو على ملخصاتها تنحاز إلى الأجواء التي أحاطت بالأحداث وتنطلق إما من عداء للنظام الذي كان قائماً أو تنخرط في جوقة الفعل الهتافي الذي كان أغلبه بقصد إثارة الجلبة والغبار حتى تُصم الآذان وتعمى القلوب والأبصار.
والحقيقة التي لا ينبغي أن يكون حولها خلاف، هي أن نظام الإنقاذ كان في شهوره الأخيرة يعاني من مصاعب جمة، وكان يعيش حالة مخاضٍ لتغيير قادم، إما من تلقاء النظام نفسه أو بفعل من خارجه؛ فقد بدا أن الأفق العام في الدولة والطريق إلى المستقبل المستقر قد انسد بفعل تطاول أمد الحصار الإقتصادي المفروض على البلاد لأكثر من ربع قرن، واشتداد أزمات الوضع المعيشي وتزايد البطالة وسط الشباب، وبروز هذه الأزمات في سياق حملات إعلامية ممنهجة تتهم النظام بسوء الإدارة والمحاباة وتبديد موارد الدولة، وتضخم أخطاءه التي اعترف بها.
وقد كانت محصلة ذلك أن انقلبت اللجنة الأمنية للنظام على “رأسه ووضعته في مكان آمن” وأعلنت – كما قال رئيسها – “انحيازها” للمتظاهرين الذين وصلوا، قبل أربعة أيام من ذلك، إلى ميدان قيادة الجيش واعتصموا فيه برضاه وحمايته، يطلبون منه الإنحياز لمطلبهم الأبرز ” تسقط بس” !!
(2)
في ميدان الإعتصام، ولشهرين متتابعين، بدت صورة المستقبل وردية والأجواء ربيعية، برغم الصيف، وانفتح الأفق واسعاً لأمنيات وأحلام مؤجلة، فقد كان المعتصمون ينتظرون في أية لحظة بعد سقوط النظام، إعلان الولايات المتحدة الأمريكية رفع اسم السودان من قائمتها للدول الراعية للإرهاب، وإعلان الدول الدائنة عن شطب ديون السودان أو إلغاء فوائدها التي تربو على الأربعين مليار دولار، وإعلان دول خليجية أسهمت في حصار النظام وإسقاطه تسابق ودائعها إلى بنك السودان المركزي. ومن ثم تدفق الاستثمارات العربية والأجنبية إلى السودان لتحوله إلى سلة غذاء العالم العربي، وتنهض فيه المشاريع الصناعية وتتراجع الأسعار وتتوفر الطاقة ويكثر التشغيل وتتراجع معدلات البطالة !!
وفي ميدان الإعتصام كذلك، بدا حلم تحقيق السلام الشامل وكأنه في متناول اليد، كيف لا والحركات التي حملت السلاح في وجه الدولة وكانت جزءاً من منظومة “الحرية والتغيير” التي تصدرت المشهد عقب سقوط النظام، أضحت “حركات كفاح مسلح” وكان جميع من في الميدان يتوقع بين الفينة والأخرى إعلان قادتها وضع السلاح جانباً والوصول إلى الخرطوم للانخراط في تشكيل مشهد التحول الديمقراطي الذي يتوق إليه السودانيون.
وفي الميدان بدا وكأن السودانيين سيودعون عهوداً من الأنظمة الشمولية، وأن نظاماً ديمقراطياً خالصاً من عيوب الماضي أطل فجره، وفيه ستنفتح حرية التعبير والتظاهر والتنظيم والعمل النقابي بلا قيود، إلى الحد الذي سيتصدر فيه السودان قائمة الدول العربية والأفريقية في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان، وينافس منظومة الدول المسماة حرة.
(3)
تلك كانت الأحلام، أما الذي حدث ، ونحن ندخل الآن عامنا الرابع بعد ذهاب نظام الإنقاذ، هو أن كل تلك الأحلام تحولت إلى ما يشبه الكوابيس أو هي كذلك. فرفع اسم السودان من القائمة الأمريكية لم نلمس له أثر، وكان ثمنه امتصاص ملايين الدولارات دفعتها الحكومة المدنية من عرق ودم الشعب السوداني فديةً لليانكي، وأضيف إلى ذلك الثمن المادي ثمن معنوي هو إجبار السلطة الحاكمة على توقيع صك التطبيع مع دولة الكيان المغتصب لأرض فلسطين. وبرغم انخراط السودان في تطبيق وصفة صندوق النقد الدولي دون أن يتهيأ لها الناس، إلا أن أوضاعهم المعيشية تراجعت مئات المرات مما كانت عليه في أواخر حكم الإنقاذ.
والسلام الذي كان يمكن أن يكون في متناول اليد تباعدت خطواته وتجزأت اتفاقاته، والخلاصة أن دارفور التي كانت تنتظر أن يعمها الأمن والأمان تعيش الآن حروباً أهلية متعددة الوجوه، ويدفع مواطنون فيها ثمناً باهظاً من حيواتهم ومن استقرارهم، دعك عن ضياع الآمال التي كانت تراودهم في العودة إلى قراهم وتأمين نجوعهم وتطبيع حياة المقيمين في معسكرات النزوح وعودة اللاجئين واتساع دائرة الخدمات الأساسية وتنمية الموارد التي يزخر بها الإقليم.
وعن الحريات حدث ولا حرج، فقد عمدت السلطة المدنية المدعاة إلى منع التظاهر ومصادرة الدور الصحفية والقنوات التلفزيونية وفصل الصحفيين من مؤسسات الدولة وإلى اعتقال المعارضين لأكثر من عام دون توجيه اتهامات إليهم ومصادرة حق العمل وفصل العاملين وتشريد أسرهم، وإلى مصادرة الحقوق والأملاك الخاص بغير أحكام قضائية. فعلت كل ذلك بتواطؤ من السلطة العسكرية دون أن يرف لهما جفن.
(4)
حدث ما حدث، لأن الذين تولوا زمام الأمر في البلاد كانوا فريقين غير متجانسين، فريق عسكري توهم أنه حين يضع يده في أيدي من تصدروا المشهد ستُسقط السماءُ عليه حلولاً لمشلات السودان المعقدة، وفريق مدني ما إن آلت إليه السلطة حتى وضع “كتلوج” الأحلام في درج الطاولة وأخرج كتلوجاً آخر لا صلة له بالسودان وأهله زاعماً أنه يريد تغيير وجه الحياة في السودان إلى الأبد، لكن وفقا لذلك الكتلوج !!
لقد كان الكثيرون يظنون أن حلول “الفريق المدني” لمشكلات السودان جاهزة، وأن من أسموا أنفسهم “تجمع المهنيين” لم يتركوا شاردة ولا واردة من المشكلات إلا ووضعوا لها حلولاً وهم بانتظار “تسقط بس”، لكن بمرور الوقت تبين أن تجمع المهنيين لم يكن سوى لافتة رفعتها قوى الحرية والتغيير لأغراض انتهازية، وأنه ليس وراءها مهنيون ولا يحزنون، بل مجموعة صغيرة من الناشطين، وفي ضوء ذلك وقف حمار الشيخ في العقبة !!
وزاد من بلة الطين أن القوى الغربية والإقليمية التي استثمرت في محاربة نظام الإنقاذ وكان لها سهمها في ترتيبات إسقاطه، تبنت مواقف انتهازية أسستها على نصائح الناشطين، وتبين أنهم جميعهم يجهلون واقع الناس والحياة في السودان، فلا هي ولا من وظفتهم لخدمة أجندتها يعرفون طبائع المجتمع السوداني العريض، ولا ممسكات وحدته، ولا طرائق نهضته.
(5)
الآن ونحن إذ نفيق من أحلامنا بسودان حر وآمن ومزدهر، نكتشف أن شياطين من الإنس والجن تلاعبوا بمشاعرنا وبوعينا، وسحروا أعيننا واسترهبونا، وصوروا لنا ما حدث في أبريل 2019 وكأننا مقبلين على نعيم مقيم، فلم يمكننا رؤية ما كانوا يدبرون من خطط لسرقة أحلامنا والإستيلاء على مستقبل بلادنا وأجيالها القادمة.
لقد أبطلت إرادة الله، والواقع المرير الذي خلفته الأفعال الحمقاء لمن حكمونا، ذلك السحر، والذي عشناه خلال السنوات الثلاث الماضية، وتبين أن الحالة الثورية التي كنا نحسب أننا نعيشها ما هي إلا أضغاث أحلام تمت صناعتها على مدى سنوات. لكن لئن جاءت استفاقتنا متأخرة، فذلك أفضل من أن لا تأتي.
إن التحدي الذي يواجهنا اليوم هو تحدي الوعي الشامل، بطبيعة الخديعة التي تعرض لها شعب السودان، وبمواردنا البشرية والمادية وبمصالحنا العليا وبأصدقائنا الحقيقيين، والأهم من ذلك بوضوح أهدافنا الأساسية في التحول الديمقراطي غير المزيف بخزعبلات الليبرالية الجديدة !.