رصد : الراية نيوز
حليم عباس يكتب :
عرمان والتسوية عبر الدم !
” نحن ليس لدينا شيئاً نقدمه غير الشهداء”. ياسر عرمان في المؤتمر الصحفي لقحت قبل يومين! يتكلم عن الشهداء و كأنه يقدم شيئاً بسيطاً من جيبه الخاص، و “الجود بالموجود” كما يُقال، و هم بالفعل لا يملكون ما يقدمونه سوى أبناء الأمهات المسكينات!
المفارقة أن عبدالله حمدوك وقع اتفاق 21 نوفمبر، بهدف حقن الدماء أن تسيل في مسعى عبثي نهايته معروفة من البداية، و لكن الغباء الثوري وقتها اعتبره انقلابياً و خائناً. و الآن يعود القحاتة للتسوية في موقف أضعف بكثير من موقف اتفاق 21 نوفمبر، و ذلك على الرغم من كل الدماء التي سالت، في أكبر دليل على أن المزيد من الموت لا يعني بالضرورة المزيد من المكاسب السياسية، بل قد يعني العكس؛ يعني الهزيمة المعنوية و السياسية و الأخلاقية في نفس الوقت. أن تجلس مع خصمك بعد فقدانك لكل الأوراق، و تكون مضطراً بالتالي للتنازل المهين و على كتفك عبء التضحيات التي قُدمت، و تظهر بمظهر الخائن لهذه التضحيات. فياسر عرمان نفسه حينما سُئل عن اللقاء الأخير مع العسكر فيما يتعلق بقضية الشهداء قال لم نتطرق لها بالتفصيل، و الحقيقة أنهم لا يستطيعون أن يتطرقوا لها أصلاً لأنهم يريدون تسوية بأي ثمن.
كلام ياسر عرمان يذكرنا بمقولة لدبلوماسي أمريكي متقاعد حول الحرب في اوكرانيا حيث ذكر أن :”الولايات المتحدة ستقاتل الروس في أوكرانيا حتى آخر مواطن أوكراني”. لاشك أنها عزيمة تقهر الجبال، تماماً مثل عزيمة و تصميم ياسر عرمان و هو ينفق الشهداء من عرق جبينه الخاص!
الإصرار على خوض معركة من الواضح من البداية أنها غير مكتافئة هو موقف عبثي غير مسئول، و لكن الرهان على الانتصار من خلال تقديم المزيد من القرابين البشرية هو عمل إجرامي بامتياز، و ليس له اي معنى آخر.
ما تفعله أمريكا و الدول الغربية بالشعب الأوكراني بالزج به في حرب غير متكافئة ضد روسيا، تحت شعارات تبدو ظاهرياً أنها شعارات عادلة: الشعب الأوكراني يدافع عن أرضه ضد العدوان الروسي. هو أمر يشبه ما تفعله قحت مع شباب و مراهقي ثورة ديسمبر: الشباب يدافعون عن الديمقراطية و الحرية ضد الانقلاب. في معركة غير متكافئة و غير منطقية بحسابات الواقع السياسي و موازين القوى السياسية. في الحالتين، في حالة حرب اوكرانيا و الحرب ضد الانقلاب، تعمل الدعاية على إخفاء الرهانات الحقيقية للصراع. فحرب أوكرانيا في جوهرها صراع جيوسياسي بين الغرب، و تحديداً حلف الناتو بقيادة أمريكا و الاتحاد الأوربي من جهة و روسيا من جهة أخرى. الحرب هي بين الغرب و روسيا، و أوكرانيا مجرد موضوع للصراع، و في النهاية إذا حصلت تسوية للصراع فستكون تسوية بين القوى العظمى أمريكا و روسيا في الأساس و أوكرانيا مجرد تابع لأمريكا. نفس الأمر حاصل في السودان بطريقة أخرى. جوهر الأمر صراع حول السلطة بين قوى سياسية و اجتماعية و هو ليس معزول عن التدخلات الخارجية كذلك، و لكن تأتي الثورة و مقاومة الانقلاب كخطاب براق للشحن العاطفي. عندما يأتي وقت التسويات تتم بين القوى الرئيسية في الصراع، و يتم استبدال اللغة العاطفية الثورية بلغة جديدة عقلانية، “إسقاط الانقلاب” يصبح “إنهاء الانقلاب”، و “الانقلابيين” يصبح اسمهم من جديد “المكون العسكري”، بعد اكتمال التسوية يتحول الجميع إلى أبطال لأنهم حققوا السلام، أما الشهداء فيصبحون مجرد عبارات برتكولية في بداية الخطب: التحية و المجد و الخلود للشهداء. و ليرحمهم الله!