الخرطوم : الرآية نيوز
“سُكْراً” حمدوك !
أغلب العلمانيين تستهويهم الصورة التي يتحدث عنها منظروهم كثيراً، والتي تمثل عندهم أجمل الصور التي تحقق “حرية الاختيار”، وهي صورة البار بجانب المسجد. يسهل على كل مسلم تحديد الحق والباطل في هذا الاختيار، اللهم إلا إن كان علمانياً غارقاً في نسبوية تجعله يعلق الحكم ويفتح المجال لإختيار أحدهما أو اختيارهما استناداً على التفضيل الشخصي بعيداً عن جدل الحق والباطل.
بما أن فكرة التجاور لغرض الاختيار البارد المميِّع هي فكرة العلمانيين، وبما أن البار يمثل الجانب العلماني من طرفي الاختيار، وبما أنه لا توجد غير أربع خيارات أمام الناس إذا وُضِعوا أمام لعبة الاختيار هذه، فإن ترتيب أفضليات العلمانيين سيكون كالتالي : ١/ أن يختار الناس البار دون المسجد .. ٢/ أن يجمعوا بينهما مع البداية بالبار .. ٣/ أن يجمعوا بينهما مع البداية بالمسجد .. ٤/ أن يختاروا المسجد دون البار .
الخيار الأول، اختيار البار، هو المفضل للعلمانيين لأنه سيمثل انحيازاً لما حرصوا على إضافته ليكون أحد طرفي الاختيار، ولن ينفي أفضليته الزعم بأنهم محايدين بين طرفي الاختيار، فهذا الحياد – القبيح في ذاته – لا يتوفر في هذه الحالة طالما أن هناك إباحة تتجاهل رأي الدين قد حدثت، ومجاورة لأقدس الأماكن قد حُرِص عليها، ومساواة بين المسجد والبار قد حدثت، وهي المساواة الناتجة من رفض أي حكم سلبي على من اختاروا البار، وفي هذه المساواة نفسها انحياز شديد الوضوح ضد المسجد .
وخيار الجمع بين البار والمسجد مع البداية بالبار سيكون هو الثاني من حيث الأفضلية، لأنه سيحقق التعايش ، وبالتالي لن يذهب الحرص على وجود البار وعلى مجاورته للمسجد سدىً، فما لا يُدرَك كله لا يُترَك جله، فإن تعذر اختيار البار منفرداً، فإن البداية به ستحمل نوعاً من الاختيار، وستجعل عمَّار المساجد يصلون وهم في حالة سكر وفي ذلك درجة عالية من التعايش العلماني، أما خيار الجمع مع البداية بالمسجد فسيليه في الأفضلية لأنه سيحمل بقيةً من الانحياز للمسجد، وفيه شئ من التحيز ضد البار لأنه يحمل التسليم بأن الخمور تمس بقدسية الصلاة .
أما اختيار المسجد دون البار فهو الأقل في الأفضلية لأنه يعني أن البار الذي جاور المسجد لم يصنع فرقاً، وستبور الخمور وسيضطر مالكه – العلماني بالضرورة – إلى إغلاقه، وبالتالي تنتهي المجاورة ويخسر العلمانيون لعبة اختيار ما كانوا يظنون أنهم سيخرجون منها بخفي حنين.
لكن العلمانيين يراهنون ويعولون على أن المجتمع لا يخلوا من مدمنين، وهذا صحيح، لكنه لن يصنع اختياراً حقيقياً لأن الناس لن يقرروا الدخول في لعبة الاختيار لمجرد رؤيتهم لمسجد وبار متجاورين، فالكل موقفهم محسوم قبل هذه اللعبة وبالتالي لا تفعل المجاورة شيئاً أكثر من جلب السكارى للتعاطي بجوار المسجد ، ثم إن كثيراً من المدمنين يفضلون التعاطي في أجواء معينة بها مغريات أخرى غير الخمر ولن يجرؤ العلمانيون على توفيرها بالقرب من المسجد. ولهذا سيفضلون التعاطي في الأنادي بعيداً عن البارات التي تجاور البارات. وإن كان هناك زبائن لبارات المساجد فلن يكونوا إلا من الأقلية العلمانية “المثقفة” التي لديها أهدافها من هذه المجاورة.
هذا التعويل على عدم خلو المجتمع من سكارى يؤكد أن وضع البار بجانب المسجد الغرض الأساسي منه هو إغواء المصلين لا هداية المدمنين، لأن العلمانيين لا يرون في السُكر انحرافاً يحتاج إلى هداية، ويدل على أن القرب المطلوب ليس مكانياً فقط بل أيضاً قرب وجداني، بحيث يتعايش عُمار المسجد مع رواد البار، ولا يتضايق المصلون من سكران حدثته نفسه أن يزاحمهم في الصف ويترنح أثناء الصلاة ويستفرغ ما في جوفه، ولا يحرِم السكارى المصلين الذين يغشون البار من قفشاتهم وكرمهم العلماني المعتق : “قزازة على حسابي للمولانات” .
أجرت حكومة حمدوك التعديلات القانونية الكفيلة بالاقتراب خطوات نحو العودة للزمن العلماني الجميل حين كان في كل حي إنداية ، وقد حرس العسكر هذه التعديلات وتصدوا، مع الشفاتة، للمتظاهرين ضدها. لكن الخجل الحكومي مضافاً إليه الممانعة المجتمعية جعلا خطوات التنفيذ تمضي ببطء رغم “جرأة” أتاتورك السوداني الذي اكتفى بالتغافل عن الأنادي ومظاهر السكر في الشارع، ولم تظهر باراته بعد لتجاور المساجد أو لا تجاورها. لكنه حصل على “شكراً حمدوك” خارجية أهلته للحصول على لقب أتاتورك السوداني .
إبراهيم عثمان