الخرطوم : الرآية نيوز
اتجاه لا دينى
هشام احمد شمس الدين
هناك اتجاه لاديني حثيث يريد أن يجعل “القرآن” (كلام الله) مساو في الوزن المعرفي لقصيدة “أنا وليلى” (ماتت بمحراب عينيك ابتهالاتي)!
في هذا الاتجاه يندرج من هو واع بالهدف الأخير ومن هو في حكم المغفل الذي يظن أنه منخرط في عمل فكري محترم.
ولكن كيف يظن هؤلاء أنهم يستطيعون تحقيق هذا الهدف: الله = الشاعر، القرآن = أنا وليلى؟
هناك ثلاث مراحل :
المرحلة الأولى :
1.تمكين المقولات والتعبيرات اللادينية وجعلها المؤسس والدال الوحيد على حقيقة السلوك الإنساني والظواهر المادية باعتبار أنها ” غير متحيزة، موضوعية، علمية أو الأقرب للعلمية”.
مثال:
إنسانياً: تستمد الحقوق من “الحالة الطبيعية” (فرض لاديني يتصور وجود حالة أولى للاجتماع البشري خلقتها الطبيعة/المادة)، الحالة الطبيعية هي المرجع للمفاهيم كالحرية والمساواة، وهي حالة موضوعية وقاهرة. يجب التوقف هنا وعدم البحث في ما الذي أوجد الحالة الطبيعية إن صحت، لأن هذا البحث قد يسحبك لافتراضات دينية يكون الله فيها خالقا وموجدا، وبالتالي صاحب أمر في تحديد الحقوق ومفاهيمها، مما سيجعلنا ندخل في نقاش حول الدين وخلاف وتعدد في الآراء ونبتعد عن العلمية والموضوعية.
مادياً: التوقف عن البحث عن “العلل الأولى” للأشياء، الرياح تهب، العلة: انخفاض في الضغط الجوي. توقف هنا مادمت قد أدركت ما يفيد التعامل مع الرياح مادياً، أي لا تبحث في إن كانت هناك علل أخرى غير مادية كمشيئة الله في هبوب الرياح مثلاً؛ لأن الأمر سيقوم بسحبك للبحث في ما يريده الله منك عبر هذه الظواهر الأمر الذي سيخلق حالة يتحد -أو يختلط- فيها الديني بالعلمي وهذا ما سيقصيك عن العلمية والموضوعية.
2. إعادة تعريف المصطلحات القائمة بما يتوافق والتوجه اللاديني واعطاءها ذات الأوصاف السابقة (الحيادية، الموضوعية، العلمية) لتتمتع بالسلطة.
مثال:
الدين هو: ظاهرة إنسانية يتطلع فيها الإنسان للارتباط الروحي بمفارق لعالمه، أو شيء من هذا القبيل، أي أن الدين مثلاً ليس هو جماع من الهدي والتشريعات والأخلاق المنزلة من لدن الله لصلاح البشر في الدنيا بغية السلام الدائم في الآخرة. التعريف الأخير متحيز لا موضوعي يدفع نحو الخلاف فيجب تركه.
العلم هو: تصديق التصورات في العالم المادي، أو كل ما يمكن قياسه وتجريبه ماديا، أو كل ما يمكن عقلنته واخضاعه للنظام المنطقي، إلى آخره، المهم هو ما يمكن الإحاطة به تجريبيا أو منطقياً في هذا الفضاء المادي فحسب، أما الدين مثلاً فيقع خارج تعريف ما هو علمي، وليست المشكلة في ذلك فحسب، إنما في أن ما هو علمي سترتفع منزلته بعد حين فوق كل ما هو غير علمي وسيندرج الفكر والسلوك الإنساني متمحورا حوله ومهمشا لما سواه.
3. اعتبار النماذج اللادينية القائمة نتاج للتطور الإنساني الكلي والنهائي فهي ليست وليدة ثقافة بعينها.
مثال: الدولة الحديثة هي جماع ما توصلت له الخبرات الإنسانية المتضافرة، أما إن اعتبرناها نتاج ثقافة بعينها فلا بأس، فهي أيضاً فرض موضوعي عالمي لا يمكن التفوق عليه. وقد يذهب البعض إلى اعتباره فرض نهائي يمثل أعلى ما يمكن أن يسمو له الفكر.
بعد إنجاز هذه المرحلة والتي تبدو فيها الحياة مفعمة بالمقولات والمفاهيم اللادينية القارة ذات السطوة (السطوة تتأتى عبر مؤسسات تبث وتشرعن وتحمي هذا التوجه، وعبر حفنة من المثقفين الذين يتمادون في ممارسة نوع من الحصار أو الإرهاب الفكري)، تكون المرحلة الثانية على المشارف.
المرحلة الثانية :
1.السخرية من مظاهر التدين السلوكية العامة باعتبار أن أصحابها طيبون ولكنهم ليسوا أذكياء كفاية، وهنا لا يتعرض للدين أو لمفاهيم التدين، إنما المتدينون فحسب.
مثال: النظر للورع باعتباره قلة جسارة أو انكفاءة، وللمتدين باعتباره غير كفء في بعض الأعمال التي تتطلب مرونة وحيل وأفق كالسياسة مثلاً.
2.الانتقال من المظاهر السلوكية للسخرية من بعض المفاهيم الدينية الممارسة وغير الممارسة، باعتبار أنها غير مواكبة وقديمة.
مثال: مفهوم البيعة لله أو الحاكم، الشورى، الولاية، الكفر، الإيمان، النفاق، الجماعة المؤمنة وغير ذلك.
3. التقليل من شأن ما أنجزه المسلمون في التاريخ، سواء أكانت تلك المنجزات مادية، علمية، فنية أو غير ذلك. والهدف من هذا التقليل من احترام الفعل التديني، أو التشكيك في رقيه وتميزه، فإن كان الماضي كذلك فمن الشك بمكان أن يتغير الحال في الحاضر أو المستقبل، يتزامن ذلك مع النيل من النماذج الإسلامية الشخوصية، أي الرموز التي لديها مكانة في وجدان عامة الناس.
مثال: صحابة، قادة، علماء، فقهاء، تخريبا للوجدان وإفراغا له من الأمثلة المقتداة .
4.الانتقال من السلوك والمفاهيم والتاريخ والرموز إلى شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، باعتباره صاحب ثقافة غامضة سابقة على نبوته، ثم التقليل من شأنه الخاص كذكاءه مثلاً أو حكمته، وكل ذلك الذي من شأنه التأثير على رسالته (القرآن) تمهيداً للمرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة :
الانتقال للقرآن، وذلك عبر الآتي :
1.تقسيم أولي للقرآن إلى آيات صالحة للعمل بها وآيات غير صالحة، ثم آيات رمزية لا تفيد الكثير.
مثال الآيات غير الصالحة تلك التي تتحدث عن الحدود والتشريعات الأسرية والزوجية والعلاقة مع غير المسلم والسياسة ما شابه، باعتبار أنها جائت لمعالجة أوضاع تجاوزها الزمان.
2.الإنتقال للآيات التي تعد صالحة بإقرار ما يتوافق منها مع التصور اللاديني، مثال ذلك القصاص من القاتل.
أما الآيات خلاف ذلك فلابد أن تخضع لعملية تخفيف دلالاتها واعتبارها رمزية الدلالة أو مجازية المعنى، كالآيات التي تتحدث عن العقاب الآخروي أو النعيم، أو التي تمييز بين المؤمن والكافر.
3.استخدام المفاهيم اللادينية التي سبق الإشارة لها في إعادة تعريف القرآن باعتبار أنه كتاب روح وإلهام.
أخيراً يتم الخلوص إلى أن القرآن مصدر مستثير للخواطر ومشبع للروح، وفي غير ذلك هو عاطل عن الإفادة.
لدي صديق لا ينفك عن اعتبار قصيدة “أنا وليلى” مستثيرة لخواطره بشكل فعال ومشبعة لروحه ووجدانه بشكل كريم جداً، تماما كبعض الرؤية اللادينية للقرآن!