(١)
قد يكون من قبيل المصادفة أن يحدث قدرٌ من التزامن بين اختتام مؤتمر حزب حركة المستقبل للإصلاح والتنمية الأسبوع الماضي، والتصريحات التي أطلقها الأمين العام المكلف للحركة الإسلامية، علي أحمد كرتي، خلال زيارته إلى ولاية الجزيرة قبل أيام، والتي عدّها الكثيرون تدشيناً لمرحلة جديدة من نشاط الحركة الإسلامية على مسرح الأحداث؛ وسواء كان الأمر صدفةً أو نتاج ترتيب مسبق، فمن المؤكد أن هناك تلاقٍ لظلال الحدثين.
(٢)
حين تلاقت إرادة الآباء المؤسسين للحركة الإسلامية السودانية قبل ثلاثة أرباع القرن، على الاستجابة للتحدي الذي أفرزه المد اليساري والشيوعي وسط الفئات المتعلمة، لم تكن معالم المشروع السياسي للحركة قد تبلورت، فقد كان هاجس المؤسسين الرئيسي دعوي إصلاحي، لكنه مع مرور الوقت أخذت ملامح المشروع السياسي تتضح، وخاصة بعدما برز قائد الحركة الجديد، الدكتور حسن الترابي، على واجهة الأحداث عقب ثورة أكتوبر ١٩٦٤م.
وقد برزت ملامح المشروع السياسي ضمن تصور تجديدي للمشروع الدعوي برمته، ودخلت بموجب ذلك كل مناحي الحياة ضمن الطرح التأصيلي لدور الحركة الإسلامية ودعوتها (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، وتنامى الوعي بأن الإسلام هو نظام لكل مناحي الحياة وليس شعائر تعبدية فقط، كما بدا أن الوصول إلى السلطة ليس رجساً من عمل الشيطان بل هو واجب، فما لم يتم الواجب إلاّ به فهو واجب!!
(٣)
شاركت الحركة الإسلامية، ضمن جبهة الميثاق الإسلامي، في إنتخابات ١٩٦٥، وحصلت على مقاعد محدودة في تلك الإنتخابات، ثمّ كانت مِن أوائل القوى السياسية التي تصدت لانقلاب مايو ١٩٦٩ الذي دعمه الشيوعيون، وأسست مع حزبي الأمة والإتحادي الديمقراطي، تنظيم “الجبهة الوطنية” التي دعمت أكثر من محاولة لتغيير النظام المايوي عسكرياً، ثمّ لمّا جاءت المصالحة بين قيادة الجبهة الوطنية ونظام مايو في ١٩٧٧ انخرطت الحركة الإسلامية فيها وشاركت في سلطة نظام مايو حتى انقلب عليها النظام في شهوره الأخيرة وأدخل قادتها السجون.
بعد انتفاضة أبريل ١٩٨٥ وسقوط نظام مايو، أسست الحركة الإسلامية حزب “الجبهة الإسلامية القومية” وخاضت الإنتخابات التي جرت بعد ذلك بعام وحصلت على أكثر من خمسين مقعداً في الجمعية التأسيسية (البرلمان)، حيث حلت في المرتبة الثالثة بعد حزبي الأمة والإتحادي الديمقراطي، وشاركت لفترة محدودة في إحدى الحكومات الإئتلافية التي تشكلت في أواخر سنوات الديمقراطية الثالثة، حيث تمّ إخراجها إثر ما عُرف وقتها ب “مذكرة القوات المسلحة” المرفوعة لرئيس مجلس الوزراء، في فبراير ١٩٨٩ وهي ما اعتبرته الجبهة الإسلامية إنقلاباً عسكرياً بغطاء مدني.
ووفقاً بإحدى إفادت زعيم الحركة الراحل، الدكتور حسن الترابي، فقد كان استيلاء ضباط من الجيش على السلطة في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ بتدبير من الحركة، حيث شكلت الحركة الإسلامية تحالفاً قوياً مع المجموعة العسكرية الجديدة، وهو التحالف الذي استمر، بأوجه مختلفة، حتى سقوط نظام الإنقاذ في أبريل ٢٠١٩.
(٤)
كنتيجة لذلك التحالف المدني – العسكري، نشأ في كنف السلطة الجديدة حزب “المؤتمر الوطني” والذي كان في حد ذاته تحالفاً بين الحركة الإسلامية وقوى مدنية أخرى شملت رموزاً من القوى السياسية التي أطاح بها الإنقلاب، وشكّل الإسلاميون داخل هذا التحالف نسبة (٤٠%)، لكنهم ظلوا القوة الأكثر فاعلية داخله لأسباب متعددة، ليس هنا محل الخوض فيها.
تعرّض المؤتمر الوطني نفسه لانقسام حاد عقب نحو خمس سنوات من تأسيسه فيما عُرف بمفاصلة الإسلاميين، وتأسس في إثر ذلك حزب “المؤتمر الشعبي” في ١٩٩٩ بزعامة الراحل الدكتور الترابي، ثمّ خرج من المؤتمر الوطني في ٢٠١٣ فصيل إسلامي آخر، وإن كان أقل عدداً، وأنشأ حركة الإصلاح الآن بزعامة الدكتور غازي صلاح الدين؛ غير قطاعاً معتبراً من منسوبي الحركة الإسلامية اختاروا ما أسموه ب “الرصيف”، وهو عدم الانخراط في أي من هذه المجموعات.
وحين سقط نظام الإنقاذ في أبريل ٢٠١٩م، كان حزب المؤتمر الوطني يعاني إختلالات عميقة، وصراعات داخلية، لكن سقوط النظام فوق رؤوس الجميع، أجل ترجمة تلك الاختلالات لانقسامات جديدة؛ إذ بدا أن الخطر الماثل يستهدف أصل الوجود السياسي للحركة الإسلامية بغض النظر عن الفصيل السياسي الذي يمثله ذلك الوجود.
(٥)
فرض التغيير الذي حدث في أبريل ٢٠١٩م واقعاً جديداً على كل منتسبي الحركة الإسلامية السودانية، بمن في ذلك مَن فاصلوا النظام واستقلوا بأحزابهم السياسية، وتحت ضغط العضوية التي اتسعت مشاربها وتنوعت تجاربها، أبدت القيادات في مختلف الأحزاب التي خرجت من رحم الحركة الإسلامية مرونة في تقديم تنازلات يمكن أن تفضي إلى وحدة الصف الحركي مرة أخرى، لكن تجربة السنوات الأربع التي انقضت، أو كادت، عقب سقوط الإنقاذ، أثبتت أن تلك الوحدة لا تعدو أن تكون مجرد أشواق، إذ أن الصف، حتى داخل كل واحد من الحزبين الرئيسيين، الوطني والشعبي، لم يعد موحداً، فضلاً عن أن الأطروحات المتاحة للأحزاب التي خرجت من رحم الحركة الإسلامية لم تجذب مَن كانوا قد اختاروا “الرصيف” عقب المفاصلة، للانضمام إلى أي كيان قائم !!
ولئن كانت هذه هي واحدة من أكبر العقبات التي واجهت المشروع السياسي للحركة الإسلامية، إلا أنها لم تكن الوحيدة، فقيادة الحركة وتياراتها السياسية كانت، وما تزال، مطالبة – من عضويتها قبل الآخرين – بأن تقدم نقداً شجاعاً وموضوعياً لتجربتها، سواء خلال العشرية الأولى، أو العشريتين الأخيرتين، والأهم من ذلك أن تطرح رؤيتها للمستقبل بما في ذلك المساهمة في معالجة الأوضاع الراهنة، وما تنوي طرحه من أفكار وبرامج لنيل التفويض الشعبي الذي يمنحه الناخبون السودانيون، في حال جرت إنتخابات وتحول ديمقراطي حقيقي.
(٦)
ليس هناك تفسيراً موحداً، داخل الصف القيادي للحركة الإسلامية وحزب المؤتمر الوطني، لما جرى في الحادي عشر من أبريل ٢٠١٩م، برغم إتفاق الجميع على أن ما جرى كان أمراً مدبراً، ولم تنجح لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها قيادة الحركة لهذا الغرض في إجلاء الأمور، وقد أسهم هذا – فضلاً عن متعلقات الخلاف القديم – في إبقاء قدر من الفتور في العلاقة بين قيادتي الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني. ولا تلوح في الأفق فرص واضحة لكيفية تجاوز حالة الفتور هذه، بل ربما تكون مرشحة لأن تتحول إلى توتر!!
وفقاً لهذه القراءة، فإنه برغم الإتفاق بين الأحزاب والتيارات السياسية التي خرجت من رحم الحركة الإسلامية، في التوجهات الكلية والأهداف النهائية، إلا أن هنالك اختلافاً واضحاً بينها في أي الوسائل والأساليب يتعين اتباعها للوصول إلى تلك الأهداف، في الوقت الذي يصعب فيه أن نستبعد تأثير الأشخاص على مجريات تلك الاختلافات ومآلاتها !!
وإذا كان الأمر كذلك، فما هو الخيار الأفضل الذي ينبغي أن تتخذه الحركة الإسلامية لكي تعزز مساهمتها في الحياة السياسية؛ هل تتبنى حزباً سياسياً بعينه، أم تحتفظ بمسافة واحدة من جميع الأحزاب التي تتفق في التوجه العام وتختلف في أساليب العمل؟
(٧)
بتقديري ليس من مصلحة الحركة الإسلامية، ولا العمل الإسلامي، في المرحلة القادمة، أن تتبنى الحركة حزباً سياسياً بعينه، خلافاً لما كان عليه الوضع في التجارب السابقة، وآخرها تجربة المؤتمر الوطني، فمن شأن ذلك أن يحوّل الاختلافات في وجهات النظر إلى صراع، وللحركة بدلاً من ذلك، أن تعيد طرح وتفعيل الرؤية التي سبق وأن أعدها مجموعة من الباحثين والمفكرين، والمتمثلة في أن يكون العمل الحركي عملاً شبكياً بدلاً من هيكلي، أي عن طريق “المنظومات” بحيث تشمل “منظومة العمل السياسي” مثلاً، عدداً من الأحزاب الإسلامية المتفقة في توجهاتها الكلية والمستقلة بأنظمتها الخاصة عن بعضها، وسيكون مفهوماً أن يكون للحركة الإسلامية، من بين هذه الأحزاب، حزباً أولى بالرعاية.
سيقلل العمل وفق نظام المنظومة السياسية من إحتمالات الاحتكاك بين الأحزاب الحركية الإسلامية، وسيتيح فرصاً أكبر لتوجيه طاقات المنتمين للتيار الإسلامي نحو البناء والتنافس لكسب التأييد وسط القواعد الشعبية، أكثر من توجيهها للإختلاف والتشاكس، وسيتيح كذلك فرصاً مستقبلية أفضل للتحالف السياسي سواء لخوض الانتخابات أو داخل البرلمان المنتخب في حال حصول أكثر من حزب على مقاعد فيه.
على أنه من المهم الإشارة أيضاً إلى أن العمل وفق أسلوب “منظومات العمل” لا ينبغي أن يكون حصراً على الجانب السياسي، وإنما يشمل كل جوانب الحياة، بحيث تكون للإقتصاد منظومته وكذلك للمجتمع، ولغير ذلك من أوجه الحياة المتعددة.