(١)
مثلما صُدم السودانيون، وخاصة سكان ولاية الخرطوم، بالحرب تطرق أبواب بيوتهم والقذائف تتساقط على جدرانها منذ الخامس عشر من أبريل، يبدو أن الكثير من المراقبين صُدموا كذلك بعجز “المجتمع الدولي” في أن يمارس ضغطاً مؤثراً يمكن أن ينزع فتيل الأزمة التي بدا أنها تفجرت فجأة، ويوقف الحرب التي بدت مفتوحة على أكثر من احتمال!!
قبل إندلاع هذه الحرب، كانت للمجتمع الدولي آليتان مندمجتين تعملان – كما قيل – لمساعدة السودانيين للإنتقال إلى وضع ديمقراطي كامل ومستقر. الآلية الأولى ثلاثية، تتكون من الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي ومنظمة “الإيغاد”؛ ثم أصبحت هذه الثلاثية سكرتارية تنفيذية لآلية رباعية برزت على مسرح الأحداث دون أن تفوضها أية جهة ، وهي الآلية المكونة من كلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والمملكة العربية السعودية والإمارات!!
في هذا المقال سنحاول أن نفسر لماذا فشلت هذه الآليات في الإنتقال بالسودان إلى وضع ديمقراطي، ولماذا بدت “الأسرة الدولية” عاجزة عن ممارسة أي دور إيجابي لإيقاف الحرب التي اندلعت، وما صلة هذا العجز بجهود “المجتمع الدولي” والأمم المتحدة على وجه التحديد، والتي لها بعثة خاصة لدعم الإنتقال والتحول الديمقراطي موجودة على عين المكان منذ نحو ثلاث سنوات.
(2)
في يونيو 2020 إعتمد مجلس الأمن الدولي قراره بالرقم 2524 بإنشاء بعثة أممية لدعم الإنتقال في السودان تحت البند السادس، وحدد مجلس الأمن مهام بعثة “يونيتامس” بالمساعدة على انتقال السودان إلى الحكم الديمقراطي، ودعم حماية وتعزيز حقوق الإنسان والسلام المستدام، ودعم عمليات السلام وتنفيذ اتفاقياته، والمساعدة على بناء الحماية المدنية وسيادة القانون في جميع أنحاء البلاد، بالتركيز على دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق؛ فضلاً عن دعم تعبئة المساعدات الإقتصادية والإنمائية، وتنسيق عمليات المساعدة الإنسانية المقدمة للسودان .
وبدلاً من أن تفتح البعثة أبوابها لجميع الفاعلين السياسيين في السودان وتسهم في توحيد رؤاهم بشأن قضايا الانتقال، وعلى رأسها إرساء السلام الشامل ومعالجة أوضاع الإقتصاد، تواطأت البعثة مع فئة قليلة من السودانيين لكي تتحكم عن طريقهم في مسار الفترة الإنتقالية، واختارت أن تذهب أكثر من ذلك بأن ترسم مستقبل السودان السياسي والإجتماعي على النحو الذي يخالف أسس العدالة ومنطق الأشياء !!
قد يكون مفهوماً إن كان الذي يقوم بمثل هذه الأدوار هو إحدى سفارات الدول الغربية في الخرطوم، فالأجندة الغربية في السودان معروفة منذ قديم الزمان، لكن أن تتبنى البعثة التي تمثل الأمم المتحدة منهجاً إقصائياً يقسم السودانيين على أساس اللون السياسي وأن تتحول إلى سكرتارية لحلف دولي وإقليمي يحاول هو تفصيل مواصفات الإنتقال على النحو الذي يختار هو مواصفاته، ويصم أذنيه عن سماع أصوات طيف واسع من القوى السياسية والمجتمعية السودانية، ظلت على مدى ثلاث سنوات تطالب بإصلاح الوضع المعوج، فهذا ما يخالف ميثاق المنظمة الدولية نفسه وبالضرورة يخالف تفويض البعثة، ولعل هذا هو ما أسس للعوامل التي أدت إلى النتيجة التي نعيشها اليوم.
(3)
الانتقال الذي يفهمه الكافة، والمستقر في التجارب السودانية والأعراف الدولية، والذي كان من المفترض أن تكون بعثة اليونيتامس قد جاءت لأجله، هو الانتقال من الوضع السياسي الذي كان قائماً قبل 11 أبريل 2019 ، والموصوف بأنه مأزوم إقتصادياً ومحاصر دبلوماسياً ويتحكم فيه حزب واحد، إلى وضع جديد منفرج إقتصادياً ومنفتح دبلوماسياً ومتعدد سياسياً، يسوده السلام الشامل ويهيئ البلاد إلى انتخابات حرة ونزيهة يختار فيها السودانيون مَن يتولى حكمهم، وحينها – بطبيعة الحال – سينتهي دور البعثة وتغادر. لكن يبدو أن البعثة ومَن يقفون وراءها قرروا سلفاً أنها ستبقى إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وأن مهامها الحقيقية لا علاقة لها بانتقال طبيعي إلى وضع ديمقراطي في وقت معلوم، وإنما بانتقال يتم تخليقه وزرعه في رحم التربة السودانية، والتحكم مستقبلاً في جيناته الوراثية !!
حين النظر إلى أفعال ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، رئيس بعثة يونيتامس، السيد فولكر بيرتس، خلال السنوات الثلاث الماضية، سنكتشف أنه كان يمارس “التقية” السياسية ويحاول أن يتجمّل للسودانيين ويُدلس تقاريره الدورية لمجلس الأمن، بينما هو يفعل خلاف ما يقول، وسنكتشف أيضاً أن الآلية الرباعية التي قيل أنها تشكلت لإسناده، متواطئة معه فيما يفعل، وأن المهمة الحقيقية لهذا الحلف هي زرع الفتنة المُفضية إلى تفكيك مقومات الدولة في السودان، وإلا فكيف نفسر إصرارهم المستميت على “إعادة هيكلة” مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية والقضائية وممارسة العزل والإقصاء السياسي للقطاعات الأوسع من القوى السياسية المدنية، وتبنيهم لمجموعة سياسية محدودة السند الجماهيري، وسعيهم الدائم لتمكينها من أن تمارس دور السلطة المدنية المنتخبة، دون أي نوع من التفويض الشعبي أو الرضا السياسي.
لقد نجح رئيس بعثة “اليونيتامس”، خلال السنوات الثلاث الماضية في “مهمة” غير التي فوضه مجلس الأمن لإنجازها، وهي مهمة زرع بذور الفتنة بين القوى السياسية السودانية التي كان مطلوباً منه أن يسهل طريقها للتوافق على أجندة الإنتقال، وإعداد نفسها للانتخابات وممارسة الديمقراطية داخلها، ونجح، في نفس الوقت، في زرع الفتنة بين القوى العسكرية الحاملة للسلاح، حينما استقطب المجموعة شبه العسكرية منها لصالح مشروعه الذي أسماه “الإتفاق الإطاري”، وأصر أن يمضي بهذا المشروع إلى نهاياته على الرغم من ثبوت أنه مشروع معزول سياسياً وشعبياً.
(٤)
ثلاث سنوات من عمر البعثة الأممية، وأربع من عمر الإنتقال، كانت كافية لتحول ديمقراطي حقيقي ينقل السودان من الحالة التي كان عليها إلى الحالة التي تمناها أهله، وهي حالة الإستقرار السياسي والتعافي الإقتصادي والسلام الشامل، أو على أقل تقدير، كانت كافية للتأسيس إلى إزالة المخاطر والمعوقات التي من شأنها أن تعيق ذلك التحول؛ لكن الواقع هو أنها نقلتنا إلى حالة الحرب التي نعيشها اليوم، وأثبتت أن أطراف “المجتمع الدولي” الممسكة بملفات الشأن السوداني كانت منخرطة في إقامة “كانتونات” خاصة بكل طرف منها، وهذا ما يفسر لنا حالة العجز التي يعيشها “المجتمع الدولي” وعدم قدرته على التأثير على مجريات الأحداث بالقدر الذي كان يتوقعه المراقبون !!
ليس هناك من طرف دولي أو إقليمي يُنظر إليه باعتباره فاعلاً على المسرح السوداني، بما في ذلك الأمم المتحدة، إلاّ وهو فقد حياده ، وانحاز مع هذا الطرف المحلي وتجاهل ذاك، وزاد من بِلة الطين أن الأطراف المحلية التي يقفون معها، ثبت أنها خفيفة الوزن السياسي والمجتمعي ومحدودة التأثير على مجريات الأوضاع.
يحصد المجتمع الدولي والإقليمي اليوم ثمار غرسه، وعليه – إن كان يريد أن يستعيد دوره وقدرته على التأثير – أن يعيد جرد حساباته ويصحح مساره ويثبت حياده، ويسعى لاستعادة ثقة السودانيين فيه، من خلال الانخراط الجِدي مع جميع الأطراف السودانية دون استثناء، والاحتفاظ بمسافة واحدة من جميع الفرقاء، وفق تفويض واضح يُحدد معالم الإنتقال وأهدافه وآليات الوصول إليها.