الخرطوم :الرآية نيوز
العدالة المبلولة أو الصرخة لا الاستئناف!
من أشهر ما يُلام عليه الساسة وغيرهم مفارقة العمل للقول، ومجانبة التطبيق للشعار، ذلك مأخذ كلاسيكي قديم قدم وجود الإنسان، لكن في زمن القحط، زمن إجتراحات الصغار وإبداعاتهم، ستكون مجانبة التطبيق للشعار الأصلي النبيل أكبر وأظهر بحيث لن يجرؤ أكبر دجال على نسبة التطبيق إلى الشعار الأصلي، وسينتقل الإبتذال إلى الشعار نفسه، وستجد أفعال الصغار الصريحة في مفارقتها لأي قيمة شعاراتها الشبيهة التي تردم الفجوة، وتجعل أي فعل مهما شذ هو خطوة نحو الشعار لا مفارقة له، لا يمكن لمثل هذا الارتباط الوثيق بين الإثنين أن يكون مؤكداً إلا من خلال تقحيط الشعار نفسه، واشباعه للغرائز البدائية، ومن هنا أتت شعارات (ندوسو دوس) و( البل ) و (سيصرخون) و ( سيبكون ) .
لا يمكن أبداً للمفتون بالبل والدوس والصراخ ( كشعارات قحطية بديلة ل ( حرية، سلام، عدالة)، والمنتظر للعروض المسرحية الأسبوعية التي تسبقها الدعاية التشويقية، لا يمكن له أبداً، مهما حاول التظاهر بالترفع عن الصغائر، أن يتحدث صادقاً عن استنكاره لبل تجاوز العدل، أو دوس تخطى الانتصاف، أو عن تفهمه لاحتجاج نتج عن الظلم الخام المتبجح، فهذه الشعارات نفسها تدوس العدل قبل الخصوم، ولذلك سيكون المؤمن بها مشغولاً عن ذلك بمراقبة الصراخ، فقد وعده القاضي/الدوّاس الأكثر حقداً بأن صوت الصراخ سيكون عالياً، وأنه في ظل عدالة الصغار سيكون أي احتجاج على الظلم الصريح هو مجرد صراخ يجب على القطيع الاستمتاع بنغماته لا البحث عن أي شبهة حق فيه، بل يجب عليه أن يسعد باكتمال البل/ الدوس بنجاح كلما كانت حجة المبلول أقوى والظلم الذي وقع عليه أظهر وأكبر واستئنافه/صراخه أكثر إقناعاً .
في دولة عدالة البل أو بل العدالة لا يحتاج القطيع إلى حيثيات الإدانة، ولذلك لا يخوض (القضاة) في ذلك أبداً، فالقاضي قد حدد الإدانة في التوجه السياسي للمستهدفين ، وقد وعد مسبقاً بأنه سيصدر أقصى الأحكام، وأنه سيستمتع مع القطيع بالاعتراض الذي أعيدت تسميته ليكون صراخاً يطرب له القاضي لا استئنافاً ينظر في معقوليته، فهو عند إصدار الحكم لم يكن مشغولاً بأن يصادف صحيح القانون بل أن يولِّد قوي الصرخة. وما بين البل/الحكم القضائي والصراخ/ الاعتراض/الاستئناف سيتم بل العدالة نفسها، وسيصفق القطيع لذلك، وسيتباهى القضاة بأنهم لا ينشدون العدالة في الأصل بل الصرخات التي تثبت أن ظلمهم وافتراءهم قد أوجع الخصم السياسي وشغل القطيع عن الواقع المرير الذي يعيشه .
وهذا ليس أمراً غريباً ولا شاذاً في ظل حكم رباعي الشيوعيين والبعثيين والناصريين والجمهوريين ، بل هو الطبيعي الذي يشبه الأقزام عندما يتعملقون، والذي يمثل امتداداً طبيعياً لتجارب سلطوية في عشرات الدول التي فرت كل شعوبها من حكم الرفاق فرار السليم من الأجرب.
إبراهيم عثمان