الخرطوم:الرآية نيوز
صاحب السجن
وصاحب السجن المعني بالكلام ليس آمره ولا مديره وإنما هو رفيق السجن كما خاطب النبي المسجون يوسف بن يعقوب عليه السلام صاحبا سجنه قائلا يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟وصاحب السجن الذي أشير إليه في مقامي هذا هو الأستاذ الصحفي و الإعلامي المرموق حسين خوجلي وقد ذكرتني الأيام الماضيات صحبتنا في سجني كوبر ودبك بعد إعتقالنا على عهد الرئيس الراحل نميري (أحسن الله إليه وبوأه مكانا عليا في الجنة) . فقد جرى إعتقالنا بعد إنقلاب المقدم حسن حسين رحمه الله في 5سبتمبر 1975ومكثنا في المحبس بين كوبر ودبك حتى يوم 17يوليو1977 بعد المصالحة الوطنية. والحبس والسجن محل إختبار وبلاء وتمحيص وهنالك تستبين معادن الرجال وأخلاقهم. وقد كتبت لي رفقة أناس في السجن مرة من بعد مرة على تقلب الإزمان وتغلب الحكومات فتعلمت أن رفقة السجن (بحلوها ومرها) هي الرفقة التي لا تنتسى. فقد رافقت أناسا في الحج و رافقت أناسا في ودوي المدافع يخرق الأسماع و رافقت أناسا في السكن و العمل وفي الحكم فما علمت صحبة تكشف عن معدن صاحبها مثل صحبة السجن. ففي السجن تضيق المسافة بين الواحد والآخر ضيقا يلغي كل خصوصية ثم هي تمحو كل تكلف فلا يكون المرء إلا نفسه التي بين جنبيه. و خبيئات الأنفس لاتغطي عريها الثياب كما تغطي عري الأبدان وفي مقامات القلق و الطمع والجزع والفزع يظهر المخبؤ، لذلك فإن معرفة وصحبة السجن هي المعرفة بحق وأما صاحبي هذا فقد أمضيت معه بين دبك وكوبر ما ينوف على العامين بروزنامة السجن. وسكنا في عنبر واحد محتشد بنا وبغيرنا، وبقينا في سجن دبك و به أربعة عنابر لا تزيد مساحته على مساحة ميدان كرة القدم. فأنا أزعم أني أعرف صاحبي تمام المعرفة. أعرف منه الجلد والصبر والشجاعة فهو الصنديد الذي لا يخشي الوعيد. واعرف منه الجود والكرم ،فما عنده مبذول وليس مدخرا مخبؤ، وأعرف حبه للتثقف والتعليم، وقد كانوا يومذاك أيفاعا طامحين. وهو مولع بالأدب والشعر والحكايا علي وجه الخصوص. وكان لنا في السجن منتدى أدبي تحت شجرة ظليلة وسط سجن دبك أسميناها كرمة أبن هاني ولم تكن شجرة عنب بل شجرة نيم ،ولكننا قوم نتفاءل، ولولا التفاؤل لصار المحبس إلى محبسين سجن الجدران وسجن الوجدان لنفس القنوط. وتحت الشجرة كانت لنا مؤانسات ومساجلات ولطائف من المزاح والحديث الحلو المباح وكان حسين وصاحبه حنين هما القائمان بمهمة الترويح والمؤانسة ولطالما إنتقلت المداخلات من ضيق الحلقة إلى سائر المظاليم المحابيس الآخرين. وكان لحنين وحسين برنامج صباحي ترويحي ثقافي لا يتأخر أبدا عن موعده في السابعة صباحا وكان لهما برنامج تثقيفي تاريخي بعنوان إيقاع من الزمن الماضي وهو البرنامج الذي نقله حسين من ضيق السجن إلي سعة الأثير. ثم أنطوت الأيام والسنين وتغيرت الغير، لكن حسينا ظل في معدنه فريد وعن مناقبه لا يحيد، وهو ذات الراجل القابع في القسم الشرقي بلا جريرة غير أن مارس حقه في قول ما يراه حقا ،ولئن ظن أناس أنهم بذلك يخوفونه فإنهم لا شك لا يعرفونه، ولو إشتد المرض وخفت البصر، فإن الأنفس المجيدة لا يزيدها البلاء إلا توهجا… فك الله أسره عاجلا غير آجل، رغم مكر الماكرين.
أمين حسن عمر