الخرطوم:الرآية نيوز
من أفاق من البنج أن يأخذ بيد أخيه، حتى لا يواصل الهدم تحت تأثير التخدير
الثورة والكيزان.. تأثير التخدير
د. وائل عبدالرحيم باشري
كنّا والعنفوان الثوري في قمته، نتلمّظ غيظاً وتغلي في دواخلنا حمم وبراكين الكراهية للكيزان، الذين حكمونا ثلاثة عقود، لم نكن نراها سوى خراب ممنهج ينفذه البشير وعصابة ترفع شعارات الطهر، وهي تعمل على تدمير البلاد وإذلال العباد. كنّا تحت تأثير الخطاب السياسي في الجامعات، وقصائد الشعراء الأشاوس، محمد الحسن حميد ومحجوب شريف، والتي كانت تمثل مزيجاً جميلاً من المخدِّر الفعّال، والتغذية العاطفية اليومية. كنّا في الجامعات لانرى مسوغاً لشتم الأحزاب التقليدية الأخرى، مثل حزب الأمة والحزب الاتحادي، وبقية الأحزاب، لأننا ببساطة تفتحت أعيننا واستنارت أذهاننا ونحن لانرى سوى عمر البشير وعلي عثمان ونافع وأحمد هارون وحزب المؤتمر الوطني. مع عنفوان الشباب والرغبة الفطرية في النقد والخلاف السياسي التاريخي التقليدي المتوارث جيلاً بعد جيل، بسبب هذه العوامل مجتمعة، لم نكن نبحث في دورات الحكم الوطني المتعاقبة، لم ننشغل بقراءات معمقة في كتاب الحزبية ولم نجر مقارنات، حتى الحكم القائم لم تكن تعنينا فكرة الحكم عليه بشكل موضوعي، مثلاً: كيف كان الحال في المجال الفلاني، وماذا حدث في هذا المجال؟ حتى ترسّخ عندنا في اللاوعي، أن (الحسابات السياسية لا تقبل الموضوعية). منذ رمضان الماضي، حين ماتت جدتي ونحن نطوف الليل كله بين المستشفيات المغلقة، ونجتهد داخل الأسرة في توفير وقود تتحرك به السيارة، مع وفاتها عند الساعة الثانية ليلاً، شعرت بالصدمة، صدمة في حجم الوطن وفي حجم الثورة الضخمة التي وهبناها كل مانملك، ليس أعز من الروح والدم والوقت وحناجرنا التي شقت بهتافاتها عنان السماء. صدمتي ليست في الفقد الأليم لجدتي العزيزة التي تربيت في حجرها وفي كنف حنوها المعهود، لكن الإحساس بالصدمة طغى، كأنني أفيق من غيبوبة، كأن المخدِّر (البنج) قد زال تأثيره، في تلك اللحظة، ومع وقع الصدمة، بدأت في مقارنة الحال في عهد الكيزان والحال المائل الماثل اليوم! كنت لفترة طويلة أعيش تناقضاً عنيفاً بين ضرورة مواصلة الكراهية للكيزان، باعتبارهم شرزمة ولصوص وعصابة ممهنجة تعمل على تدمير البلاد وإذلال العباد، كما كنّا نردد في الجامعات، ومابين الحقيقية الأليمة الصادمة بأنهم أفضل مئات بل آلاف المرات من حكومة الثورة وحاضنتها السياسية التي تشبه ثوباً قديماً بالياً يظن صاحبه أنه يستره! استطالت حالة التناقض حتى عزمت أن أكتب، ليس فقط لأتنفس وأخرج الهواء الساخن من دواخلي، ولكن لأهدي الآلاف من أبناء جيلي حكمة التفحّص والمقارنة، والأهم من ذلك أن نعيش أحراراً، خطاب الكراهية كان يمثل لي سوراً لا اتحرك إلا داخله، بل كان قيداً يكبّلني فلا أتحدث عن سوء الأحوال والانهيار الاقتصادي المتسارع، اتحدث فقط عن سوء الكيزان، هؤلاء اليهود الذين جففوا البلاد من القمح في عهد نميري وافرغوه في النيل! هؤلاء اليهود الذين يجمعون غاز الطبخ في خزانات ضخمة ويفرغونه في الهواء (كما قال لي صديقي). هذا هو الخطاب المطلوب فقط، وهذه هي البضاعة الرائجة والرابحة في سوق الثورة والثوّار. مايجري حالياً هو الخراب الممنهج بعينه، وماكنّا نراهم أبالسة وشواطين يقبعون في كوبر وامتداداتهم في المدن والقرى، هم كالملائكة مقارنة بمن يحكمون اليوم، وفي كل الحالات الوطن ليس ملكاً للسابقين ولا الحاليين، وليس ضيعة سقطت في يد فاشلين، الوطن أرض ونيل وآباء وأمهات وأجداد وحضارات وموارد وبطولات وتضحيات، لماذا كل ذلك في مهب الريح الآن؟! نصيحتي لكل اصدقائي، اقول: من أفاق من البنج أن يأخذ بيد أخيه، حتى لا يواصل الهدم تحت تأثير التخدير!