إبراهيم عثمان يكتب : التأسيس في زمن القحط !

السودان

الخرطوم:الرآية نيوز

التأسيس في زمن القحط !

كل يوم يمر يثبت أن تقحيط/إفقار المفاهيم والمعاني والكلمات والأشياء أصبح عملاً يومياً لهذا النظام، يسير جنباً إلى جنب مع الإفقار المادي الذي أصبح سياسة رسمية معتمدة، بل أصبح تقحيط المعاني ضرورة وجودية بما أنه المعادل الثقافي والمعنوي الحتمي للقحط المادي، لا يحتاج هذا الأمر إلى حفريات عميقة لملاحظته بل هذا ما يحدث بالعلن وعلى السطح وبأكثر الطرق بدائيةً وسذاجةً .

لن يجد المرء صعوبة في ملاحظة أن الرغبة في العملقة الزائفة تقف وراء كل عمليات التجريف وتقحيط الوعي التي لا ينتهي فصل من فصولها إلا ليبدأ آخر أكثر ابتذالاً وركاكة بالتزامن مع خطوات الإنحدار المتسارعة، فقد بدأ حمدوك عهده برفع عصا موسى عاليةً تراها كل الأعين، ثم انطلقت حملة الشكر الكبرى التي توحي بأن العصا عاملة وتصنع المعجزات التي تلمسها كل الأنفس، ثم كان القحط الذي ضرب كل شئ وأوقف حملة الشكر ليولد الشعار الشعبي الأشهر “بالصوت بالصورة حمدوك طلع ماسورة” .

مثَّل هذا الشعار الشعبي الذائع ضربة معنوية موجعة لحملة عملقة حمدوك التي يتجند لها موظفو الاتحاد الأوروبي في مكتبه، وبقية الكتائب الإلكترونية، فكان لا بد من طريقة مختلفة لترميم صورة حمدوك، فكان لقب *”المؤسس”*، وكلمة المؤسس تشترك مع كلمة *”ماسورة”* في عدد من الحروف، ولعل الأخيرة كانت في ذهن من تفتقت عبقريتهم عن هذا اللقب الذي يقفز على الواقع بالغ السوء .. فأي تأسيس ذلك الذي يقوم على تدهور التعليم والعبث في المناهج والتجريب “الأشتر”؟ أي تأسيس ذلك الذي يقوم على ضرب الصحة والموت في الطرقات في أثناء البحث عن العلاج ؟أي تأسيس ذلك الذي يقوم على إهمال الانتاج وتصعيب النقل؟! … إلى آخر الأسئلة الحقيقية التي لا تنتهي..

حملة شكراً حمدوك كانت تحتاج كي تستمر إلى انجازات آنية ملموسة يشعر بها المواطنون في أمنهم وتعليمهم وصحتهم وطعامهم وسائر شؤون حياتهم، وبسبب غياب هذه، بل وحدوث عكسها، كان لزاماً على موظفي الاتحاد الأوروبي في مكتب حمدوك أن يبحثوا عن بديل لهذه الطريقة كي يتجنبوا سذاجة فكرة الشكر اليومي وكي يوحوا للناس بأن حمدوك مشغول بأمور استراتيجية كبرى ليس بالضرورة أن تنعكس مباشرة على معاشهم، فوراً أو في المدى المتوسط.

أتت تسمية المؤسس بعد القناعة التامة بالفشل كنوع من الهروب إلى الأمام عبر الإيحاء للجمهور بأن حمدوك لم يأتِ من أجل اليومي والمباشر من احتياجاتهم، بل أتى ليؤسس، ولهذا فهو مشغول بالمستقبل عن الحاضر، وبالعميق عن السطحي، وبالدائم عن العابر .. وهذه لا تحتاج كحملة الشكر إلى إثباتات يومية بل يكفي العناوين الكبيرة: رفع العقوبات مقابل الدفع والتطبيع وخدمات أخرى، توقيع السلام مقابل العلمانية، العودة إلى العالم مقابل السير في ركابه، الدعم الأممي مقابل بعثة الوصاية، والدعم الأوروبي مقابل إدارة مكتب حمدوك … إلخ

من أكبر الإثباتات على أن تقحيط الوعي هو سياسة رسمية معتمدة يقف خلفها حمدوك نفسه، أن حمدوك الذي كان، بتواضع مصطنع، قد أبدى انزعاجه من تخصيصه بحملة الشكر وطلب أن يكون الشكر للمؤسسات، عاد هو نفسه وانخرط في حملة ترويج لقبه الجديد، بما فيه من تضخيم مبالغ فيه للذات، ومن تهميش لدور المؤسسات، ومن رغبة في صناعة بطل أسطوري خارق يبدأ معه التاريخ الحقيقي للسودان، في استهانة وتحقير لكل من سبقوه من القادة، وذلك عبر الهاشتاق الذي أصبح يختم به منشوراته في مواقع التواصل #جيل_التأسيس، ولن تنطلي على الناس حيلة تجنبه تسمية المؤسس، وتوزيع التسمية على كل الجيل، فبجانب احتواء هذه التسمية على التحقير والاستهانة بكل الأجيال السابقة إضافة إلى القادة، هناك الغرض الواضح الفاضح منها، وهو خدمة التسمية الأصلية ( المؤسس) ومحاولة ترسيخها في الأذهان .

من الواضح أن موظفي الاتحاد الأوروبي بمكتب حمدوك هم أقرب إلى ثقافة أحزابهم السياسية منهم إلى الثقافة الأوروبية فيما يخص أساليب الدعاية، فبصمات التجارب الدعائية للأنظمة السلطوية الشيوعية واضحة، حيث ثقافة تقديس القائد الملهم، وإطلاق الألقاب التي تبالغ في مدح الزعيم، وهم، بهكذا حملات دعائية، إنما يؤسسون للجهل وتغييب الوعي، ولمستقبلهم ومستقبل حمدوك لا مستقبل السودان.

إبراهيم عثمان

إبراهيم عثمانالتأسيس في زمن القحط !مقالات
تعليقات (0)
أضف تعليق