هشام عثمان الشواني يكتب : هل تعلمنا درس فاجعة 1955 ؟

السودان

رصد : الرآية نيوز

هل تعلمنا درس فاجعة 1955 ؟
هشام عثمان الشواني

في أغسطس من العام 1955 اندلع تمرد للفرقة الجنوبية التابعة لقوات دفاع السودان حينها في مدينة توريت، ذلك الحدث جاء قبل الاستقلال وقد كانت البلاد حينها تخضع لحكم ذاتي عبر برلمان بداية من العام 1954 حتى العام 1958. تمرد توريت هو تمرد جنوبي، جاء نتيجة لغبن تكثف بشدة في السنين القليلة التي سبقت العام 1955، وقد اتخذ الصراع وقتها طابعا عرقيا حادا، قاد لفاجعة راح ضحيتها حوالي 255 مدني من الشماليين بينهم 16 امرأة و20 طفل.

كانت تلك الفاجعة بداية للصراع العنيف في جنوب السودان، ولكن قبلها بشهر واحد فقط، تم قمع مظاهرات للجنوبيين راح ضحيتها عدة أشخاص، والسبب مطالبتهم بحقهم في الأجر المتساوي مع الموظف الشمالي. نتساءل من الذي ذرع تلك التفرقة في الأجور؟ من الذي رسخ للنظرة العرقية للشمال كعربي مسلم وللجنوب كأفريقي زنجي؟ هنا سنعود لأكثر من عقدين في الزمان من تلك التواريخ، لنجد سياسة المناطق المقفولة التي اتبعها المستعمر البريطاني لزرع التمييز بين الشمال والجنوب. تلك السياسة العرقية التي اتبعها الإنجليز في السودان، منعت التواصل الحميم العفوي بين السودانيين. فالثقافة الإسلامية العربية تمددت على السودان عبر هذا التواصل العفوي الحميم، تمددت مخلوطة مع العناصر الأخرى لكل مجموعة ثقافية محلية. فصارت اللغة العربية في السودان تمتلك المقومات الموضوعية، لتكون لغة السودان العامة والمنتشرة. فنجدها صارت في بلد التعدد اللغوي هذا، بمثابة الوسيط للتحدث بين مجموعات القبائل التي لا تفهم لغة بعضها البعض. ففي جبال النوبة مثلا تتحدث المجموعات اللغوية وتتفاهم مع بعضها البعض عبر اللغة العربية.

ذات المستعمر فتح الباب أمام الحملات التبشيرية لتنصير الجنوب، ونشر اللغة الانجليزية فيه. بالإضافة لتمييزه بين أجور الجنوبيين والشماليين متعللا بحجج واهية حول سهولة المعيشة في الجنوب. كان بإمكان الصفوة التي حكمت الدولة مع الاستقلال ومعظمها من الشماليين أن تتدارك المسار العنيف الذي ذهبت إليه الأحداث والصراع، لو أمتلكت رؤية نافذة عميقة حول جذور المشكلة وخطورتها، والتي قادت في النهاية لانفصال جنوب السودان في العام 2011 بعد 56 عاما من حادثة تمرد توريت.

الصفوة التي حكمت تتحمل مسؤولية تاريخية، وهذه تحتاج لدراسة مهمة تكشف جذور وطبيعة الوعي الذي شكل عقل السياسيين في ذلك الوقت، ولكننا اليوم وبعد 10 أعوام من انفصال الجنوب، نرى تمددا لنزعات أكثر سطحية وسذاجة تعجز عن خلق الحلول، وتعبر عن غبائن طائشة حمقاء. فنجد استقطابا عرقيا ينفجر في البلاد، شمالها وجنوبها، شرقها وغربها. نتساءل من هم هؤلاء (النشطاء العرقيون الجدد) الذين يتحدثون باسم الأقاليم السودانية؟ من أي فئة هم؟ وكيف تشكلت نظرتهم للأمور؟

المتحدثون باسم هذه الآيدلوجيات هم من فئة الأفندية المدينيين، من طبقة البرجوازية الصغيرة. هؤلاء طموحون، نزقون، متعجلون للسلطة والمكانة. تعليمهم ووعيهم استعماري تماما. ينظرون للسودان عبر نظارة (هارولد ماكمايكل) الذي يرسم خريطة عرقية لشمال عربي مسلم مقابل جنوب أفريقي زنجي. تتصارع هذه الفئات من أبناء الأقاليم، فنجد البرجوازي الصغير الشمالي حين تغلبه الحيلة يلجأ للعرقية، ليواجه البرجوازي الصغير الغرابي أو الجنوبي المُتوسل هو الآخر بالعرقية. وكلا الخطابين يستندان على مفهوم خاطئ غير مكتمل حول المُشكلة القومية في السودان.

فالناطقون بخطاب الهامش من مثقفي الحركات المُسلحة وقادتها، يتوسلون بخطاب (مظلومية وبكاء) زائف، يقوم على أن كل مشكلاتهم نابعة من الثقافة الإسلامية العربية، وهذا لعمري شيء مُضحك من شدة الجهل بحقائق التاريخ والجغرافيا. إن كل مشاكل السودان نابعة من التركيب الاستعماري الموروث، ونابعة من ذلك التفاوت الحاد في التنمية الذي خلفه المُستعمر وربط به هذه المُستعمرة السودانية بالنظام العالمي الرأسمالي. نجد هؤلاء الناطقون بخطاب المظلومية يتجاوزون الحدود اللائقة لأي خطاب جاد، وبذلك فإنهم كفئة برجوازية صغيرة مُتعجلة، نزقة. يُسممون الأجواء العامة للتواصل السوداني المُتعارف عليه بين الناس من مُختلف الأقاليم. ونحن بقدر ماننظر للجذور الاستعمارية للصراع، لا ننكر تاريخ التعامل الخاطئ من النخب التي حكمت السودان مع الموروث الاستعماري.

الناطقون باسم الخطاب الانفصالي الشمالي، فإنهم النقيض المُعاكس للطرف الأول تماما، والمشابه له في ذات الوقت، حيث يقوم هؤلاء بعملية في غاية البساطة وهي التسليم بصحة جميع المُقدمات الخاطئة التي يقدمها خطاب المظلومية للهامش، ثم التسليم بتعريف عرقي ثقافي للهامش، ثم يصلون لنتيجة بسيطة تقول: الانفصال هو الحل. لا يعلمون أنهم وعبر هذا التجهيل، يفتحون الباب أمام حرب أهلية عرقية ستتحول لحرب شوارع ومدن، جنودها نشطاء عرقيون متوترون. وقادتها يعيشون في الخليج وأوروبا. وذلك لأن جميع أهل أقاليم السودان منتشرون على امتداد القطر، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. الحدود العرقية للأقاليم لا تصلح لبناء دول، بل البناء يتم على ذلك التاريخ الاجتماعي العظيم الذي يجمع السودانيون.

اليوم لابد من إعادة النظر في مأساة توريت 1955 بشكل جديد، لابد من تدارك الأمر بعد حوالي 65 عاما من الاستقلال، فالدولة في ضعف كبير، محكومة من سياسيين قصيري النظر، وتكنوقراط موظفين بجوازاتهم الأجنبية، وعيهم أوروبي لا يكترث لقضايانا القومية. ثمة شروط ومهددات عديدة وجب علينا مواجهتها من أجل ترسيخ الوحدة الوطنية. وهذا شأن كبير للحركة الفكرية دور عظيم فيه، ونعني تلك الحركة الفكرية التي توجه مسار التاريخ وترسم طريقه، هذه الحركة متى ما حققت تفوقها الفكري والنظري، ستصير قوة على الأرض بأنياب ومخالب.

نقلا عن اليوم التالي.

هشام عثمان الشواني
تعليقات (0)
أضف تعليق