الخرطوم : الراية نيوز
دكتور ياسر أبّشر يكتب:
استعادة الدولة
إذا أمكن التماس الإعذار للمشير سوار الذهب (عليه الرحمة والرضوان) بمبادرته بتسليح القبائل للقتال في الجنوب، وهي مبادرة نفذها اللواء برمة ناصر في 985، بحجة أن الجيش قد أُرهق؛ فإنه يمكن التماس نفس العذر للسيد الصادق المهدي لقبوله بعملية شريان الحياة Operation Life line في الجنوب 1989. والحقيقة أن السيد الصادق أخضع لضغوط هائلة من الدول الغربية للموافقة على العملية.
كانت حجج الدول الغربية إنسانية في ظاهرها، وتقول إن السكان في جنوب السودان يعانون من نقص الغذاء. وكان هذا تبريراً قوياً، إذ من الصعب الاعتراض على مطالبة بإغاثة جوعى.
وعلى أرض الواقع كان الجيش قد بلغ درجة من الهزال، وفشلت حكومة السيد الصادق حتى في إمداد وتشوين احتياجات الجيش، مما مكن قوات قرنق أن تجتاح معظم الجنوب وتمددت حتى أقاصي أعالي النيل.
ولتسديد الضربة القاضية على الجيش كان من المهم للدول الغربية أن تخلق عملية تمكنها من مزيد دعم لقوات قرنق.
وهكذا لم تكن عملية شريان الحياة عملية إغاثية إنسانية خالصة. فقد ذكرت تقارير عديدة أن العملية مكنت الجهات الداعمة لتمرد قرنق من إدخال السلاح والذخائر وغيرها من احتياجات قواته.
وتواصلت العملية خلال عهد الإنقاذ ولم تستطع منها فكاكاً إلّا بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في 2005. وشهد السودان خلال هذه العملية انتهاكاً لسيادته متعدد الجوانب منذ يوم وافق عليها السيد الصادق إلى يوم انتهائها.
وقد كانت عملية شريان الحياة تجسيداً للمهانة وانتهاك سيادتنا، والذي فتح الباب لها هو أخطاؤنا في الجنوب. وأول أخطائنا كان إصرارنا أن نُبقي الجنوب معنا عُنْوَةً. إصرارنا ألا نُصيخ السمع لصياحهم منادين بالانفصال، بل وانزلاقنا في حرب عبثية، قاتلونا فيها بشراسة وشجاعة، وقاتلناهم فيها ببسالة وفراسة.
منذ سنين تَوَلّدت لديَّ قناعة أن البشر لا يُقدمون على الموت إلّا إذا ترسّخت لديهم قناعة بقضية. وهذا ما فعله الجنوبيون عن حق. وهذا ما فعلناه نحن الشماليين عن باطل منذ 1955.
أقول هذا لأن الجنوبيين لم يكونوا يحسون برابط يجمعهم مع الشماليين، ولأن ارتباطهم بالقبيلة أقوى من ارتباطهم بكيان جامع كوطن مع الشماليين، ولأنهم ظلوا يعتبرون الشماليين عدوهم التاريخي الذي يجب ان ينتصروا عليه ليستردوا حقوقهم. كان الفاصل الثقافي The Cultural Divide بيننا وبينهم كبيراً، وفي تقديري أن التجانس الثقافي في الأساسيات هو عامل الربط الحقيقي بين مكونات أي أمّة. ذلك التجانس الثقافي لم يكن موجوداً بصورة حقيقية بيننا والجنوبيين، وإن وجد بعاطفة مصطنعة تجعلنا نغني بوحدة لن تتم. كانت تلك مفارقة بيّنة the writing was on the wall لكننا تعامينا عنها، وظللنا نزعم أن الجنوبي العادي يريد الوحدة!!! وقد عمّقت الحرب الطويلة من هذا التباين وتلك الفُرقة. ولذلك كان لا مناص من أن يمضي كل منا في حال سبيله. وأتوقع أن يكون انفصال الجنوب خيراً على الطرفين في المدى الطويل. جاران متصالحان متعاونان خير من أفراد أسرة متحاربين.
وبعد سقوط الإنقاذ لم نستفد من أخطائنا مع الجنوب، في تفاوضنا مع الحركات المتمردة في دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. والذي أدى إلى ذلك تهافتنا نحو السلام بأي ثمن، ثم ضعف المفاوضين وافتقارهم للتجربة. ورغم خطورة ما يناقشون استنكفوا أن يستشيروا مفاوضين أكفاء من عهد الإنقاذ. وكانت النتيجة اتفاقية جوبا المعيبة المثقلة بالثقوب. كفاها خيبةً أنها سمحت للحركات المسلحة بالاحتفاظ بسلاحها وخضوعنا لابتزاز حركات كانت الإنقاذ قد أحالتها إلى قيادات ولافتات فقط، وأمِنَتْ دارفور. وما يجري في دارفور الآن بل ما يجري في الخرطوم خير شاهد على ما جرَّته تلك الاتفاقية من ويلات، وما ستجر إليه.
قيادات الحركات الدارفورية المتمردة لا تُمثل دارفور، وهي تستخدم فزاعة (التهميش) لابتزازنا فقط، ولتنعم تلك القيادات بالمناصب والامتيازات وما كانت تهمها معاناة الجماهير في دارفور، بل هي فاقمتها إبان تمردها. وما فزاعة (التهميش) إلا كذبة لمواصلة الابتزاز، ويكفي للتدليل على ذلك أن أبناء دارفور وحدها استحوذوا على 24% من المناصب الدستورية الوزارية على المستوى الفدرالي، وعلى 34% من مناصب وزراء الدولة زمن الإنقاذ، وكلا النسبتين تفوقان نسبة سكان دارفور إلى سكان السودان. ولم تكن التنمية في شرق السودان مثلاً أفضل حالاً من دارفور. تمردهم – من ثم – كان بحثاً عن مكاسب خاصة يسعون لتحقيقها عبر ابتزاز الدولة بادعاء (التهميش)، وحشد الخواجات معهم ضد السودان. حركات دارفور هي التي خلقت مشكلة دارفور، وها هي مع الدعم السريع، تعود اليوم لتأجيج نيرانها في غرب دارفور.
فُرضت عملية شريان الحياة علينا فرضاً، وفرض انفصال الجنوب فرضاً. ولكن أن تسعى قحت (الله يكرم السامعين) ممثلة في عبد الله حمدوك لاستقدام يونيتامس من تلقاء نفسها فهذه خيانة بَيّنَة الأركان. وما يونيتامس إلّا تجسيد لهيمنة القوى العظمى التي تقدم أجندتها على أجندتنا الوطنية.
لا أستبعد التدخل الدولي بقوات ووضع السودان تحت البند السابع بقرار من مجلس الأمن إذا استمر تدهور الوضع الأمني في دارفور، وسترحب قحت (الله يكرم السامعين) بقرار أممي مثل هذا، وستذكرون ما أقول لكم فهؤلاء أذناب استعمار جديد.
هللت تلك الدول لاتفاقية جوبا التي نصت على احتفاظ الحركات المسلحة بقواتها وسلاحها، وفي بلادها لا ترضى بذلك أبداً، فقد ضربت أميركا الداؤوديين Davidians بالدبابات في مستعمرتهم الصغيرة لأنهم رفضوا تسليم سلاحهم، ولم توقع بريطانيا اتفاقية الجمعة العظيمة إلّا بعد أن سلّم الجيش الجمهوري الأيرلندي سلاحه.
ليس ثمة دولة تحترم نفسها وتحرص على سلام حقيقي تسمح لمتمردين بالاحتفاظ بسلاحهم، فهذا ما يبطل وجود الدولة. الدولة وحدها هي التي تحتكر القوة. انزعوا سلاح الحركات المسلحة وأبطلوا اتفاقية جوبا المعطوبة لاستعادة الدولة، وتوطئة
” لليالي الفرح
الخضراء
في (بلدي الحبيبة)
والتي أعزف
في قلبي لها
ألف قصيده”
دكتور ياسر أبشر
———————————
28 أبريل 2022