د.محمد المجذوب يكتب : المواطنة المنفصلة عن القيمة وموت السياسة
السودان
الخرطوم : الراية نيوز
د.محمد المجذوب يكتب :
المواطنة المنفصلة عن القيمة وموت السياسة
نلاحظ ان جدل المواطنة قد تبني فرضية او مبدأ ضرورة الفصل المعنوي بين الحياة الخاصة التي يتعلق بكل ما هو حميمي وشخصيّ، وبين الحياة العامة الذي هو المجال المشترك الذي يخضع لتنظيم القانون ورقابة القيم التي يفترض ارتضاؤها من قبل المجتمع.
بيد ان هذا الفصل يحدث من ناحية نظرية نوعاً من الإرباك للذات حيث تعيش حالة من الانفصال بين حقيقة الذات وماهيتها من جهة، وبين مقتضيات الفعل في الشأن العام خاصة على مستوى تضارب القيم.
كون أن هذا الفصل لا يعدو أن يكون فصلًا وهمياً في سياق التجربة الإنسانية حيث غالباً ما نجد تداخلاً بين المجال الخاص والعام.
ففي مرحلة أولى، سعت الدولة الوطنية الحديثة في سياق البحث عن الولاء والشرعية واحتكار مرجعية الانتماء إلى “الدولة/الأمة” إلى إحكام الهيمنة على المجتمع وتأطيره ضمن منظور شمولي كاسح. وقد تم في هذا السياق ابتلاع أو غزو الحياة العامة للحياة الخاصة، فنفى عنه أي إمكانية للاستقلالية.
وهو ما يعرف بمبدأ الترشيد الحداثي للفرد أو “القفص الحديدي” كما يعبر عنه “ماكس فيبر” من خلال سطوة مؤسسة الدولة ونفوذها عبر التعليم والإعلام والمؤسسة الأمنية والعسكرية، أو بعبارة أخرى تطبيق “الدولنة الشاملة “.
وفي مرحلة لاحقة، شهدت المجتمعات الحداثية تدفق الحياة الخاصة وفيضانها على الحياة العامة، فقد أوصلت فكرة الحرية الفردية كفكرة مثالية لتحقيق حرية وكرامة الفرد إلى منعطف خطير في الواقع الغربي، فقد أدى التطرف في ممارسته الحرية الفردية الى عكوف الأفراد على ذواتهم ومصالحهم الضيقة إلى تهديد التضامن الاجتماعي الذي يمثل أساس وقاعدة أي مجتمع سياسي، وتراجع الاهتمام بالشأن العام لصالح الشأن الخاص، وتنامى ما يسميه البعض “موت السياسة” وبروز اتجاهات “سياسات الحياة اليومية”، ورزق اليوم باليوم وبالمحصلة عزوف الفرد عن المشاركة في الشأن العام وانطوائه على الشأن الحميمي الخاص، وكأنه في طلاق مع الحياة العامة.
ويتجلى ذلك من خلال استصحاب الفرد لما هو حميمي داخل الحياة العامة مثل الانتشار الواسع لظاهرة تلفزيون الواقع وبرامج الاعتراف بالمشاكل والأخطاء الشخصية الحميمية المتعلقة بالحياة الخاصة من قبيل الخيانة الزوجية، الطلاق ومشاكل تربية الأبناء في مجال البث التلفزيوني المتعلق أساساً بالمجال المشترك وقضايا الشأن العام، إضافة إلى انتشار ظاهرة استعمال السماعات في الأذنين حيث يتحرك الفرد داخل الحياة العامة مستصحباً اختياراته الفنية الخاصة، وهو ما يحول دون إمكانية التواصل وبناء المشترك، زد إلى ذلك انتشار الروابط الافتراضية الالكترونية بدل التواصل الإنساني المباشر، والاشتغال بالحياة الخاصة لمشاهير الفنانين والساسة والرياضيين.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنّ التجربة التاريخية للدولة الحديثة تبيّن تهافت الربط بين المواطنة والعلمانية كسبيل وحيد لتحقيق قيم العدل والمساواة والحرية. إذ لم تكن المواطنة المبنية على أساس علماني ضمانة للاستقرار والوحدة الاجتماعية كأحد الشروط اللازمة لقيام حياة سياسية هادئة ومستقرة.
كون أن جدل المواطنة لا ينظم المواطنة كالعلاقة بين الفرد والدولة فحسب، وإنما يطرحها أيضاً كرابطة اجتماعية تنظم العلاقة بين الأفراد.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن العلمانية هي رؤية مادية نفعية للكون والعلاقات والروابط الإنسانية، فإنّ المواطنة المتصلة بالعلمانية والمأسسة عليها هي مواطنة منفصلة عن القيمة. إذ أنها تجرد الفرد من أيّ عمق إنساني مركب وتؤسس لروابط اجتماعية يغلب عليها الطابع الأداتي والإجرائي والحسابي والتعاقدي الجافّ، وتغيب عنها الأبعاد الأخلاقية والمقاصدية والرمزية والدفء الإنساني، على عكس العلاقات السياسية و الإنسانية المركبة: “الايمان” و”الصداقة” و”الأخوة” والإيثار”، التي لا يمكن تفسيرها واستيعابها في إطار علمانيّ جافّ. فلا يمكن لهذا النوع من العلاقات الاجتماعية التفاعل مع ما يطرأ على الإنسان من أطوار الألم والفرح والحزن، وهو ما عمّق حالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان المعاصر.
كما تنظر المواطنة العلمانية للحقوق والواجبات نظرة مادية وآلية، لا تستجيب لحاجيات الإنسان غير المادية من قبيل الحنان والمودة والرحمة والأنس وسكون النفس، ومن هنا تتبيّن الحاجة الملحّة إلى إضفاء قيمة الإيمان والتراحم إلى جانب التعاقد في تنظيم الروابط الاجتماعية.
ولعل هذا ما يشير إليه الحديث النبوي:” مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا ما اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. رواه مسلم.
ملحوظة مصادر المقالة مثبتة لدي الكاتب