دكتور ياسر أبّشر يكتب : تحالف الجهل والقُوّة
السودان
الخرطوم : الراية نيوز
دكتور ياسر أبّشر يكتب :
تحالف الجهل والقُوّة
بعد أن أبرم النميري – رحمه الله – اتفاق المصالحة الوطنية عام 1977 مع الجبهة الوطنية وعاد أولئك المعارضون للسودان، ذهب النميري لناظر المسيرية بابو نمر وكان ذا مقام رفيع لدى النميري وسواه لحكمته وعقله، وقال له:
“يا عم بابو، الناس بقولوا لي خلى ناسك الزمان ناس الاتحاد الاشتراكي ديل وأبقى على الناس الجوك بعد المصالحة، إنت رايك شنو”. اعتدل الناظر في جلسته وأطرق مَلِيّاً، ثم قال لنميري:
“يا وليدي القِرِد وصى ولدو قال ليه ما تَفِك فَرِع إلّا تَمْسِك فرع” هكذا يكون الزعيم، رأياً سديداً وحكمةً تُشَدُّ لها الرحال. وما كان بابو نمر خريجاً في أكسفورد ولا هارفارد ولا سواهما من الجامعات العريقة الرفيعةً، ولكن الذين تخرجوا في تلك الجامعات يحجون إليه. وما كان نظراؤه من شيوخ وزعماء القبائل يدرسون في تلك الجامعات، ولكنهم ساسوا الناس برويّتهم وحكمتهم وحِلْمِهِم.
وفي دورة انعِقَاد لمجلس التعاون الخليجي في أبو ظبي، جيء لشيخ زايد بخطاب الافتتاح فلم يستطع قراءته فوضعه جانباً، ثم شبّك بين أصابع يديه وقال للملوك والأمراء:
أنا أبغاكم تآزَرون ها الشّكِل ها ها ها، ها الشكل” وكان هذا جملة خطاب الافتتاح. بالطبع خرجت الصحف صبيحة اليوم التالي بالعناوين المتعددة العريضة، تقول إنّ شيخ زايد دعا الملوك والأمراء إلى التضامن والتعاضد والتآزر، وأنه طلب منهم أن يصيروا كالجسد الواحد، وأنه ذكرهم بأهمية العمل الجماعي المشترك، وأنه وأنه وأنه.
لم يَنَل شيخ زايد إلّا نزراً يسيراً من تعليم غير نظامي، لكنه استقدم الكفاءات والعلماء والخبراء لبناء دولته. جاء بفقيه القانون الدستوري حسن الترابي ليكتب له مسودة دستور الإمارات، بالإداريين الأفذاذ ككمال حمزة وأحمد عوض الكريم وباللواء عثمان الأحمر لينشئ له جيشه، وبدكتور البدري عمر إلياس خبير تخطيط المدن وهلم جرا. وكان يجلس إليهم بكل تواضع يستمع إليهم كأنه تلميذهم. وتعرفون الثمرة الطيبة التي نجمت عن هذا.
أمًا نحن في السودان فقد أنعم الله علينا بحميدتي!!! أهدانا هذه النعمة لأننا حامدون شاكرون لأنْعُمِهِ. فأحسن حميدتي حراسة وزير عدل يدافع عن شرب المريسة، ونائب عام يسمى الحبر يقول إن المعتقلين الذين في أقبية السجون – بلا محاكمة – لن ينجيهم منه إلّا الموت أو الخرف. كل جريرتهم أنهم إسلاميون. يسجنون لأفكارهم. والنائب العام الحبر من كثرة علمه وحرصه على العدالة لا يعرف أن الأفكار لا تحاكم Untraible, ولا تُقتل بالرصاص، ولا يمكن اعتقالها. وتمر الأيام فيتخذ حميدتي نفس هذا الحبر مستشاراً قانونياً.
وظل حميدتي يحرس وزيراً قال إنه يبحث عن عبدة الأوثان، وجمهوري يحتج على التلفزيون لصلاة الجمعة. ولم نسمع أن حميدتي احتج على سب الدين من علماني. ثم لا يتورع في أن يكذب بأنه تربية تُقّابة.
لم يحظ حميدتي بحكمة بابو نمر ولا بفطنة شيخ زايد فجعل مستشاريه عرمان ووجدي صالح وأضرابهم، يستغلون قلة معرفته وضعف تجربته ليأكلوا ماله الذي “ما ضربو فيه حجر دغش” ورغم ذلك يحتقرونه ويجعلون منه أضحوكة. وما درى أن هؤلاء المستشارين لا يفوقونه كثيراً في المعارف والعلوم، كل الفرق أنه أكثر جهلاً منهم.
هؤلاء ليسوا مبدئيين. هؤلاء يبدلون مواقفهم وفقاً لمصالحهم. فمستشارك عرمان ذَمّ الدعم السريع في 22 مايو 2014 ووصفه بأنه جنود أجرة ومرتزقة ومجرمو حرب، لكنه قال في 3 سبتمبر 2022 إن الدعم السريع يمكن أن يكون نواة للجيش الوطني، بالطبع بعد تفكيك الجيش. هؤلاء يا حميدتي يمارسون السياسة “بالمُقاولة”.
والأسوأ أن حميدتي أفسد الحياة السياسية بالمال السياسي، وأفسد حتى النيابة إذ استمال بماله عدداً من العاملين فيها، تجسيداً لمقالة جيمس بالدوين:
“من المؤكد في كل الاحوال أن أشرس أعداء العدالة هو تحالف الجهل مع القوة”
It is certain, in any case, that ignorance, allied with power, is the most ferocious enemy justice can have.”
حميدتي لا يعرف معنى رأس المال البشري ولا مصطلح خدمة الدين، ولم يسمع ببرنامج الإصلاح الهيكلي الذي يقترحه البنك الدولي، ولم يحدثه أحد عن فائض القيمة، ورغم ذلك قَبِل أن يرأس اللجنة الاقتصادية لحل مشكلاتنا الاقتصادية. الجابرك شنو يا حميدتي على البهدلة وتهبيل نفسك؟؟
حين يكون في رأس دولة رجل كحميدتي فمن الطبيعي أن يغادرها قادة الرأي وكبار الصحفيين. طبيعي أن يهاجر منها صادق الرزيقي وضياء الدين بلال وأحمد البلال الطيب وعادل الباز والطاهر التوم . وطبيعي أن يضطهد المبدعون فيمنع الاستاذ الألمعي حسين خوجلي من العلاج حتى فقد بصره أو كاد. ومن عجبٍ أنهم منعوا حتى ابنه من الرجوع لمقر عمله في الإمارات حتى فُصل منه!!! وطبيعي أن يِضيّق على العلماء الأفذاذ من أمثال بروفسر عصام البشير ودكتور عبد الحي يوسف ودكتور محمد عبد الكريم، يحرمون الشعب من نورهم ليجدوا في بلادٍ أخرى مُرَاغَماً كثيراً وسَعَة. وحقيقةً غادر الطلاب ورجال المال وكل من استطاع ، وأخشى أن لا يعودوا.
ولكن لا تثريب عليك يا حميدتي. لا تثريب عليك فاعمل ما شئت، فإن في قيادة البلد شخصاً اسمه عبد الفتاح البرهان!!!
ياسر أبّشر
23 أكتوبر 2022