محمد طلب يكتب : رحيق الأمكنة
السودان
محمد طلب يكتب : رحيق الأمكنة
يا مسافر جوبا العيلفون جنة عدن والمهرجان
العنوان اعلاه لبرنامج تلفزيوني فكرته ترتكز علي (الانتماء للمكان) وبث معرفة تاريخية عنه للمشاهدين وربما ذات الفكرة بلونية مختلفة شهدتها برامج أخرى مثل (الشروق مرت من هنا) وكذلك برنامج( صور شعبية) للباحث المرحوم الطيب محمد الطيب فيه شئ من هذا الأمر وارتباط الأمكنة الوثيق بثقافة المجتمع وحالة الأعمار التي سخر الله تعالي لها الانسان
أكرر دائما أن الأغنية في السودان ذات مضامين ثقافية وتاريخية وهي سجل تاريخي لحركة المجتمع في كل مناحي الحياة هبوطا وصعودا وكثيرا ما تجد مبدعون يرصدون هذا التغيير بقصد أو بدون قصد فهم يسجلون ذلك عبر ابداعهم
لو سألنا عن أسماء المناطق والمدن والقرى في الأغنية السودانية سنجدها كثيرة… لكن اول ما يخطر على بالك اغنية
يامسافر جوبا لنور الجيلان…. لكنك فجأة سوف تستدرك انا جوبا عاصمة دولة أجنبية….. و أخشى ما أخشى أن يصبح مصير بارا هو نفس مصير جوبا فنفقد رائعة دكتور عبد القادر سالم ( ليمون بارا) وفي ظل الظروف الراهنة والشتات المفتعل وإشعال نيران القبلية والهوية والجهويةو (نشيل الجلالة) حتى لا نفقد (تفاح الباوقة) اللذيذ كما يقول المغني وتصبح بارا و الباوقة خارج الخريطة السودانية مثلما حدث لجوبا عاصمة دولة جنوب السودان وايقونة اغنية النور الجيلاني
ذكر المناطق في الأغنية السودانية له وجود طاغي ولعل انتمائي لمنطقة بعينها يجعلني أضع اغنية (العيلفون جنة عدن) في المقدمة وربما أعود إلى باقي المناطق في مقال منفصل
العيلفون جنة عدن
انوارها في الجو يصعدن
هكذا سمعتها عند( هدى عربي) بعد ان أعاد الحياة للأغنية المرحوم الأستاذ السر قدور في برنامجه ذائع الصيت( اغاني اغاني) وربما يكون لصديقنا الكاتب الصحفي هشام الخليفة دور في ذلك بحكم صداقته مع الاستاذ السر قدور ووجودهما سويا بالقاهرة
أيضا وجدت مطلع الأغنية بالنص ادناه
العيلفون جنة عدن شوفة معالم يسعدن
وهي من إشعار العمرابي نظمها في حفل زواج صديقه أحمد دفع الله (الدخيرة) في عشرينيات القرن الماضي وقد تغني بها سرور وعبدالله الماحي و يقال انه تم أداء الأغنية في ذات الحفل اما نحن فسمعناها عن المرحوم (مبارك حسن بركات) وقد وثق العمرابي للمناسبة في المقطع التالي
ملك السعادة كتب ختم
أن الدخيرة سرورو تم
والدخيرة هو لقب صديقه (أحمد دفع الله) وهو عيلفرني اصيل
و قد أضاف العمرابي دعاءً رائعاً احسبه صادف ساعة استجابة فابناء الدخيرة هم الأستاذ خلف الله أحمد دفع الله ( الدخيرة) الإعلامي الشهير وأولاده واحفاده من الأسر الشهيرة بأم درمان وأخيه البروف عبد الله أحمد دفع الله( الدخيرة) وهو طبيب عالمي في أمراض الجلدية والحساسية وله شهرة عالمية في مجاله فكانت دعوة العمرابي كما يلي :
يا من اذا دعى استجاب
اجعل لو من العين حجاب
ارزقه ابناءً نجاب
والمال يفيض عجباً عجاب
اما معظم ابيات القصيدة فقد اهتمت بالغزل مثلها مثل بقية أغنيات الحقيبة لأنها صيغت في حفل زفاف تتراقص فيه الحسان وهو المتنفس الوحيد لهن وللشعراء أنفسهم
لينا العيون كم هدهدن
الشادي يسكر من غيردن
يمشن مشيات العجن
سبن العقول حين بهرجن
اهلا مصابيح الدجن
جلسن وعاقلنا أندجن
لعل ترديد( العيلفون جنة عدن) في الأغنية يجعلك تستبعد انها اغنية غزل في (حسان العيلفون) في ذلك الزمان اي قبل مائة عام تقريباً وربما تحتفل العيلفون قريباً (بمئوية العيلفون جنة عدن) لاحتفاء أهل العيلفون بهذه الأغنية.
او ربما تفرد لها امسية خاصة في احتفالات مهرجان العيلفون المرتقب في27 من الشهر الجاري بدلاً من ان تكون مجرد خلفية صوتية للدعاية للمهرجان
الحديث عن المناطق في الاغاني غالباً بعيد عن الجغرافيا والتاريخ الا ان العمرابي أضاف قيمة كبيرة لهذه الأغنية بذكره (شيخ الأولياء) ومؤسس العيلفون الحديثة العارف بالله الشيخ إدريس بن محمد الأرباب الملقب ب (ابو فركة) في آخر الأغنية وجعلها كسرة لها فائلاً:
الكلو من عنصر ولي
كنز العلي معولي
صاحب المقام الاول
ابو فركة مين يساوي لي
وهي ابيات رفعت من قيمة هذه الأغنية بدرجة عالية وجعلت أهل العيلفون يحتفون بها أيما احتفاء على مدار المئة عام
عموما الحديث عن ذكر المناطق في الغنأء بشكل عام والحقيبة على وجه الخصوص ذو شجون ولعل أشهر اغنية في هذا المضمار هي اغنية من الاسكلا للشاعر ود الرضى ابن العيلفون
( من ألاسكلا و حلّ قام من البلد ولي دمعي للثياب بلّ)
وقد ذكرت في فيها أسماء كثير من المناطق (محطة محطة)… كتبت ذات مرة و شبهتها في موضوعها بأغنية شبابية يقولون انها هابطة اذكر منها الان (نعدي الكبرى نمشي بحري بالعربية ) والفنان الشاب يذكر معظم مناطق الخرطوم في تلك الأغنية (محطة محطة) و لا غير
فصبوا علىّ جام غضبهم في ذلك التشبيه حين قلت ساخرا ان
(شاعرها كمساري)
وقبل أن أختم حديثي عن أسماء المناطق في الاغاني وربما كان لكسلا وجبال التاكا القدح المعلي ومن ذلك ما نظم توفيق صالح جبريل
وتغني الكاتلي
كسلا اشرقت بها شمس وجدي فهي بالحق جنةَ الاشراق
والاغاني في هذا الجانب عصية علي الحصر لكن لابد من الوقوف عند منحني نهر النيل مع أهلنا الشايقية مرددا على ايقاع الدليب و نغمات الطمبور
جيتك وقيع يا نوري اه
ضميني في جوفك هنا
دسيني ضُمة من الزمان
تب ما يعرفوا بكاني انا
و(بكاني) تعني (مكاني) وهذا وارد في اللغة العربية والسنتها وتحويل الميم إلى باء أو كما جاء بالقرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)
وما أجمل الاختباء في (البكان) خوفاً من( الزمان) كما تغني أهلنا الشايقية
مع أمنيات صادقات أن تظل نوري والعيلفون والاسكلا وكسلا و عطبرة وبارا و فاشر السلطان. و الجنينة و(عند حلفا عند خط الاستواء) في حضن السودان مع الأمل بعودة جوبا يا مسافر جوبا
وهذه بمثابة دعوة لمهرجان العيلفون وتنسم ريح المكان وعبق الزمان في 27/1/2023 ان شاء الله فمرحباً بكل السودان بالعيلفون وليكن بداية للتكاتف والالتحام والتطبيب وشفاء كل جروح الوطن العميقة
سلام
محمد طلب