الخرطوم : الرآية نيوز
د.أمين حسن عمر يكتب :
رحلة البحث عن سلام
طريق السلام من مشاكوس إلى الدوحة (4)
كان سقوط نظام مانغستو هيلا مريام فتحا كبيرا لحكومة الإنقاذ فهي لم تكسب صعود حلفائها للحكم في أثيوبيا وأرتيريا فحسب بل ورثت سلاح الجيش الأثيوبي الذي تدفق عشرات الألوف منهم لشرق السودان بأسلحتهم طالبين اللجوء السياسي. فتم منحهم اللجوء السياسي بعد تجريدهم من السلاح. وكان الرئيس البشير فيما بعد يقول إن الجيوش تحارب بأرادة القتال لا بأسلحتها ولو كانت الأعداد الأثيوبية المدججة بأسلحتها الحديثة ذات إرادة قتالية لأستطاعت أن تدخل السودان فاتحة لا لاجئة و ذلك في وقت كان غالب الجيش السوداني في جبهات الجنوب المشتعلة.
وقد كسب السودان كل سلاح الجيش الأثيوبي اللاجيء كما أنهار بأنهياره أكبر حلفاء التمرد في شرق أفريقيا وكانت قيادة الحركة الشعبية تستقر في أصوصا بأثيوبيا وكانت المخابرات العسكرية الأثيوبية تضمن سيطرة قرنق على الحركة المركبة على تناقضات إثنية و منافسات قيادية متعددة وكان خروج قيادة الحركة من أصوصا بأثيوبيا إلى كينيا بداية لإضعاف الحركة وأنقسامها إثنيا وقياديا.
وصادفت تلكم التغيرات الجيوسياسية الإقليمية تغيرات جيو سياسية عالمية أكبر منها بكثير فهذه المرة وقعت الطامة على الحليف الأكبر الإتحاد السوفياتي الذي تفكك بعد تفكك سلطة الدرق الأثيوبي بأربعة أشهر فقط وذلك في سبتمبر 1991 وبتفكك الإتحاد السوفياتي إنشغلت كوبا حاضنة مراكز تدريب الحركة الشعبية بحالها عن كفاحها الأفريقي وهكذا فقدت الحركة الشعبية داعمها الاقليمي وظهيرها الدولي ولم يبق من داعمين إلا بضع كنائس في النرويج وألمانيا وأمريكا.
وقد حاولت الحركة نقل مركز تحركها إلى تشاد لازعاج الخرطوم عن مقربة ففتحت مركزا قياديا لها في أنجمينا لكن الخرطوم تحركت بسرعة مع الحركة الوطنية للإنقاذ التي قادها أدريس دبي إتنو لأسقاط نظام حسين حبري والذي سقط بعد سقوط الأتحاد السوفياتي بثلاثة أشهر فقط لتحيط الخرطوم نفسها بالإصدقاء الأفارقة بدلا من الأعداء.
هذا على الجبهة الأفريقية أما عربيا فقد كانت الأوضاع مغايرة ذلك إن غزو العراق الكويت وإستدعاء القوات الأمريكية وبدء الحرب العراقية الأولي في يناير 1991 قد جعل علاقات السودان تتوتر مع مصر والسعودية ودول الخليج وذلك لمعارضة السودان للحرب على العراق ورفضه التدخل الأمريكي في المنطقة. و بينما ساءت علاقة السودان بمصر تحسنت مع الجماهيرية الليبية التي أتخذت ذات الموقف من حرب الخليج وتغير موقفها من دعم تمرد قرنق إلى الوقوف ضده. وهكذا تغير المشهد الجيو سياسي في المنطقة وتمظهرت أثاره على سيرورة الحرب و إحتمالات السلام.
وبنهاية العام 1991وبعد سقوط حسين حبري في نهاية ديسمبر وحصول الجيش السوداني على عتاد ثقيل وسلاح كثير ومع ضعف التمرد وشتاته في البلدان بدأت القوات المسلحة حملة صيف العبور لتحرير المناطق التي إحتلها التمرد طوال فترة حكم الحكومات الحزبية. وبدأت الحملة في 15يناير1992 وتحركت القوات في أعالي النيل في محور ملكال أكوبو وملكال بور وملكال الناصر وفي بحر الغزال في ذات الوقت في محور واو رومبيك ومحور واو طمبرة وحققت نجاحا ملحوظا فاحتلت يرول و رومبيك والتونج. أما في أعالي النيل فقد احتلت القوات المسلحة في الرابع من أبريل بور وبعد يومين مدينة الناصر ثم جميزة ومنقلا وتمت كل هذه الانتصارات في غضون أربعة أسابيع في شهر أبريل 1994.وكان دفع الجيش مدعوما بقوات الدفاع الشعبي قويا وكاسحا.
وتحركت القوات أيضا لفك الحصار المضرب على جوبا من خلال سيطرة التمرد على توريت وكبويتا.
وفي هذا الأثناء تحركت الدبلوماسية الدولية وهي ترى المدن التي إحتلها التمرد تتساقط لدفع مبادرات السلام و تعددت المبادرات من كارتر وكينيا ونجيريا التي تقدم رئيسها بابنجيدا بمبادرة لوقف العدائيات وبدء مفاوضات في أبوجا. وفي الخرطوم دار سجال شديد اللهجة بين مجموعة تريد استخدام زخم الانتصارات لبدء جولة سلام حقيقي ونهائي يحل مشكلة الجنوب وبين مجموعة أخرى تريد استكمال العمليات العسكرية جميعها حتى طرد التمرد خارج الحدود قبل الحديث عن أية مبادرة سلام وكان لكل مجموعة حجج قوية و مقنعة لا تسهل الأستهانة بها ولكن الرجل القوي هو دائما من يحدد طريق المسير ووجهته.
وكان الدكتور الترابي لايرى الحرب حلا ولكنه يراها مهمازا يدفع العدو لمائدة التفاوض ولم يكن متحمسا لوقف العمليات فهو يراها مهمة لجعل المفاوضات حقيقية وصادقة ولكنه لم يكن من حزب تأجيل التفاوض لأن الحرب كر وفر وخير لحظات التفاوض هي لحظة الكر والعلو الميداني على العدو. وكانت تلك هي البداية بداية مفاوضات أبوجا في نيجيريا وهي أول مفاوضات جادة تعقد بشأن مشكلة الجنوب منذ أتفاقية آديس أبابا في فبراير العام 1972.
د.أمين حسن عمر
د.أمين حسن عمر يكتب : “رحلة البحث عن سلام” طريق السلام من مشاكوس إلى الدوحة (3)
[…] […]