عن تواضع الموصومين

السودان

الخرطوم : الرآية نيوز

عن تواضع الموصومين

يتغزل اليساريون، ومن يسيرون في ركابهم، كثيراً في الجيل “الراكب راس” الذي يتجاوز الجميع، بما فيهم هم أنفسهم، بوعيه، ووضوح غاياته ونجاعة وسائله، و بانفلاته من قيود الأطر التقليدية في التفكير والتدبير، وثقافته التي تتعالى على المسلمات، وتسمو فوق البداهات والمسبقات والمواضعات التي تجاوزها زمانهم وأفق تفكيرهم، وبتحرره من أسر المعتاد والمتكرر والضبابي والباهت، ورفضه لأنصاف الحلول وأرباع الأحلام، وعناده الذي يكسر المساومات، ويحطم التسويات، وبدروسه المجانية التي يقدمها لهم فيجدهم تلاميذ نجباء يتلقون، بالدهشة كلها، هذا الوعي الباتر للجهالات الماضوية، والمستعصي على التغبيشات الرجعية، والكاسح لكل الظلاميات المقعِدة، بروح الاستنارة، وبقوة الإرادة، وكفاءة التخطيط .. إلى آخر ما يخلعونه عليه من صفات الفرادة والتميز والأستاذية ..

لكن من يتفحص هذا المديح المبالغ فيه سيكتشف أنه إطراء احتيالي كاذب، سيجده إطراءً لذواتهم قبل الجيل الذي يمثلون التواضع أمامه، سيقرأ فيه الأستاذية لا التلمذة، سيجد فيه إرادة التحكم لا الحرية .. سيقرأ، فوق السطور وبينها، إدعاءات فوق الإدعاءات، وأكاذيب تحت الأكاذيب، تفوقها دجلاً، وتكتب نصاً موازياً خلاصته : هذا الجيل هو جيلنا، ملكنا، يفكر كما نفكر، أحلامنا أحلامه، وكوابيسنا كوابيسه، يحب ويكره من وما وكيفما نحب ونكره، تتحرك مواقفه وفق حركة مواقنا توقيتاً ومحتوىً ومقداراً وهدفاً .. وعي الجيل يتجاوز الجميع إلانا نحن صناع الوعي؛ وعيه بالذات، مطالبنا مطالبه، نريد منه أن يرى فينا المثال الذي يريد، والقدوة التي يقلد، لنصعد، عبره، إلى السلطة لنطبق رؤانا وبرامجنا كاملةً، لم يعدلها جيل جديد ولم يضف إليها أو يخصم، ثم ليدعمنا بعد التمكين بالتصفيق والهتاف .

لماذا هذه المسافة المصنعة والتلمذة الكاذبة والتواضع الزائف في النص الأول ؟ لا شك إنها ليست زهداً ولا استقالةً من المنافسة، ولا انسحاباً وتسليماً للراية، ولا اعترافاً بالجهل وقصور التفكير، إنها، في حقيقة الأمر، استمرار نوعي لسياسة العمل عبر الواجهات من أجل “الخم”، وهي السياسة التي أجبرهم عليها الشعور بالوصمة التي يوقن اليسار بأنها كانت، ولا زالت، علة عزلته وقزامته وأن أسبابها لا زالت موجودة وتفاقمت بسبب تجربة الحكم المليئة بكل ما هو شاذ وصادم وغير شعبي .. الوصمة التي يرى اليسار، ومن معه، في طيش بعض الشباب، وسطحية بعضهم الآخر، فتحاً لباب الأمل في تجاوزها، فهو، في الحقيقة لا يريد هذه الاستقلالية التي يزعمها، وليس قابلاً للتلمذة، وليس معتاداً على التواضع أمام الشعب الذي يصفه بالجهل عندما لا يصوت له، وإنما يريد من وحودها الوهمي المصطنع أن يتكفل بإزالة الوصمة لدى الجمهور المخموم الذي تقوده كوادرها في التظاهرات .

إبراهيم عثمان

اترك رد