دكتور ياسر أبّشر عبد المجيد يكتب : صناعة ثورة الندامة (2)

السودان

الخرطوم : الرآية نيوز

دكتور ياسر أبّشر عبد المجيد يكتب :

صناعة ثورة الندامة (2)

علمت أن أكثر الحاكمين في السودان كانوا شديدي المعارضة لعلاقة السودان بإيران ، وانتبه البشير لخطورة إيران بعد أن جاءته تقارير أن الملحقية الثقافية الأيرانية ضالعة بشدة في تَشْييع السودانيين ، وأنها شيعت حتى ذلك الوقت 300 سودانياً ، وعَدّ هذا خطراً على الأمن الاجتماعي ، فاتخذ قراراً باغلاقها ، ثم قطع علاقات السودان بإيران. ولينسب الفضل لنفسه وبِخِفّة اتصل طه ( وليس وزير الخارجية )بمحمد بن سلمان وأبلغه بقطع العلاقات مع إيران في 4 يناير 2016 ، لعلمه أن القرار سيُسعد السعوديين والإماراتيين . وقبل ذلك شهدت العلاقات مع الدولتين حرارةً بعد أن أرسل البشير قوات سودانية لليمن ولحراسة الحدود السعودية اليمنية في 2015 كجزء من التحالف الذي أقامته السعودية لمحاربة الحوثيين ، بحجة حماية الحرمين الشريفين .

من ناحيتهم اجتهد الحوثيون في تنظيم حملة إعلامية ضخمة ضد وجود القوات السودانية في اليمن، وأظهروها بمظهر من يقوم بالأعمال القذرة Dirty Work، وبثوا كثيراً من الفيديوهات لقتلى القوات السودانية في اليمن. ونجحت حملتهم تلك في خلق رأي عام سوداني مناهض لمشاركة القوات السودانية في اليمن، بل إن أعضاءاً في البرلمان السوداني تحدثوا ضد مشاركة القوات في اليمن ودعوا لسحبها في 2017. وأفلح الحوثيون في تصعيد معارضة السودانيين للحرب في اليمن، بإظهار القوات السودانية كمجرد طُعمة للمدافع Cannon Fodder حين نشروا صوراً لعشرات من قتلى هذه القوات في أبريل 2018، مما صاعد من معارضة أعضاء بالبرلمان السودان ضد الحرب. وقبل ذلك تحدث مسؤولون سودانيون عن خديعة السعودية والإمارات اللتين وعدتا بإزاحة اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب. ومنذ بداية الحديث ضد الحرب واتهام السعودية بخداع السودان تيقنت السعودية والإمارات أن السودان يُوشِك أن ينزع يده من حرب اليمن، ففترت العلاقات .

ومنذ أواخر 2017 أخذ البشير في إعادة تقييم (الصحيح تقويم) مشاركته في الحرب، ثم سعى لعلاقة أكثر دفئاً مع قطر التي ساءت علاقتها مع التحالف الرباعي الذي خطط لغزوها (السعودية والامارات ومصر والبحرين) وسحبت قواتها المشاركة في حرب اليمن في 8 يونيو 2017، وعدّت السعودية والإمارات هذا التصرف من البشير بوادر تمردٍ عليها. ومضى البشير لمزيد من التمرد حين سمح لقطر باستثمار 4 مليار دولار لتنمية ميناء سواكن، وأغضب البلدين بسماحه لتركيا بإدارة الميناء وربما إقامة قاعدة عسكرية فيه. ووعدت تركيا بمزيد من المشروعات الاقتصادية في السودان، بما في ذلك التنقيب عن البترول في السودان.

أثار تقارب البشير مع قطر وتركيا حفيظة الإمارات والسعودية. فالسعودية أعلنت إقامة “تحالف الدول المِشاطئة للبحر الأحمر ” ودخول تركيا في سواكن أزعجها. ودخول قطر (العدو ) في موانئ السودان يؤلم الأمارات التي تعتبر السيطرة على موانئ المنطقة ضربة قاصمة لأحد أعمدة استراتيجيتها الخارجية. عندها قالت كلا الدولتين للبشير سراً “إن غداً لناظره قريبُ” . ولم يرضَ البشير أن يصير بيدقاً تحركه الدولتين ، وتحرمانه حرية التحرك في فضاء أوسع ، ودون أن يُفْصِح عن تفاصيل أعلن أن السودان يتعرض لمؤامرة .

وعموماً فقد تبنَّت الإمارات خط معاداة البشير قبل السعودية، وأتاحت فرصاً لضروب نشاطٍ معادٍ له باستضافتها لمعارضين وإجراء اتصالات معهم وتنسيق نشاطهم المعارض للبشير. وأصبحت دبي مقراً – بين مقرات أخرى عديدة – لتدريب شباب على العمل ضد نظام البشير في السودان، باستضافتها لورش عمل في هذا الصدد، وكمثال نذكر ورشة العمل التي نظمها (مركز الحوار الإنساني) الذي يرأسه السفير نور الدين ساتي ونائبه الشيوعي وكانت الحلقات وورش العمل التي أقيمت في الإمارات مخصصة للتخطيط ولكيفية إسقاط البشير وأدوار الأطراف المعارضة في السيناريو المعد، مع التطرق لجوانب الدعم المادي والسياسي والإعلامي.

ويوم قَدّم السفير الاماراتي حمد الجنيبي أوراق اعتماده للبشير في القصر الجمهوري ، لاحظ كل الحضور أنه وبحركة لا شعورية منه رفع كتفيه بطريقة يُحَيّي بها العسكريون حين لا يلبسون الزي الرسمي العسكري ، وتهامسوا بعد خروجه أن السفير الأماراتي ضابط أمن !!! . ونقلت الامارات للسودان ضابطاً كبيراً كان في سفارتها في ليبيا ، وكان له دور كبير في دعم مالي لمعارضي القذافي وكبار ضباط الجيش الليبي إلى يوم سقوطه . وسَمّت الضابط هذا قنصلاً في سفارتها بالخرطوم . ولوحظ أن ” ضهرية ” سيارة القنصل/ الضابط تكتظ بالدولارات وهو يجول بها بين بيوت السياسيين والناشطين المعارضين لنظام البشير . وبعد سقوط القذافي عَيّنت الإمارات هذا الضابط ضابط إتصال Liason Officer بحلف الناتو في بروكسل ، ثم نقلته للخرطوم.
وللسفارة الإماراتية أكبر خزنة بالخرطوم . خزنة تعج بالدولارات. وفي غَفْلَةٍ منه قال السفير الجنيبي – أيام المظاهرات ضد نظام الإنقاذ – إن لديه خزنة فيها حوالى خمسمائة مليون دولار ، وأنها كلّما فرغت مَلأتها حكومته !!! . وأرسلت الإمارات فريقاً أمنياً عسكرياً مكوناً من 26 عنصر أمني ومن الاستخبارات العسكرية لسفارتها بالخرطوم، وذلك من منتصف 2018.

لم يَكَد الفريق الأمني الاستخباراتي الإماراتي يترك ناشطاً معارضاً إلا أوْصَله “عطاء” بن زايد. وضمت قائمة شراء الذمم تلك شخصية قيادية كبيرة في حزب الأمة وما بات يعرف بالاتحادي الموحّد – وهؤلاء يساريون علمانيون يلبسون مسوح الاتحاديين – وبعض بعثيين. أما حزب المؤتمر السوداني فقد جعلت له أموال الإمارات صوتياً جهيراً ، ومَكّنته من إستئجار دور وتَسْييرها حتى في الولايات ، ومن ثَمْ يكاد المؤتمر السوداني أن يكون خَلْقَاً إماراتياً جديداً. واستأجرت الإمارات شركة غربية مختصة في تقنية المعلومات تستخدم نظام البوت وإعادة تكرار الرسائل لتحريض السودانيين على الثورة على البشير، وكانت تلك الشركة تبث مئات ألوف الرسائل عبر تلك التقنية يومياً، تجرِّم وتشيطن الإسلاميين بالجملة، فخلقت رأياً عاماً أنّ كل السودانيين بلا استثناء كارهون للإسلاميين “الحرامية” بلا استثناء، ونجحت في ذلك. وكان هذا أهم بنود الاستراتيجية الإماراتية السعودية والغربية. كلهم يعتبرون التوجه الإسلامي عامة خطراً يجب محوه بحيث لا تقوم له قائمة في المستقبل. أمًا دعم الإمارات لمعارضي البشير أيام الاعتصام فلا يحتاج لبيان. وبعامة فقد كان دور الإمارات في إسقاط البشير أكبر من السعودية، ولعلها اتفقت مع السعودية أن تترك لها هذا الملف.
وبعد يوم من سقوط البشير وصل طه عثمان الحسين ومعه قائمة – أعدها مع الإماراتيين والسعوديين – بها 250 اسماً من الإسلاميين في الجيش والأمن والشرطة وكذلك من الحركة الاسلامية يطلب اعتقالهم ، وخلال اليومين الذين قضاهما بالخرطوم زار مريم الصادق والدقير وسنهوري وآخرين . وقيل لي أنه ” قَبّضهم “. وأُبْلِغَ طه أن بقاءه في الخرطوم خطر على حياته فهرب بسرعة .

ملحوظة هامة : بعد مقالي الأول في هذا الموضوع حذّرني شخصان من خطورة ما أكتب ، وقالا لي إن طه والبلدين اللتين يعمل لهما سيرسلان فرقة اغتيال لتصفيتي ، وأنه سبق أن حرّض الدولتين على الانتقام من بعض السودانيين . قلت لهما ” الله خيرٌ حافظاً ” وأنني لم أفتئت على أحدٍ ولم أكتب سوي الحقيقة ، ثمّ إنني في بلد شديد التأمين . والأهم أنني آوي إلى ركنٍ شديد ، هو الله مالك الملك الذي بيده مصائر الخلق أجمعين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
نواصل إن شاء الله
دكتور ياسر أبّشر عبد المجيد
————————————
10 فبراير 20

اترك رد