دكتور ياسر أبّشر عبد المجيد يكتب : صناعة ثورة الندامة (3)

السودان

الخرطوم : الرآية نيوز

دكتور ياسر أبّشر عبد المجيد يكتب :

صناعة ثورة الندامة (3)

من أولى الوقائع الصادمة التي تؤكد لا مبدئية كثير من كبار سياسيي السودان، هو ما قام به حزب الأمة من إقامة علاقات سرية بإسرائيل ابتداءً من عام 1954. لا أريد أن أدخل في تفاصيل لقاء السيد الصديق المهدي بإسرائيل – وهي كثيرة – وجوهرها طلبه مبلغاً مالياً. ولكن أفيد أن بعض كبار حزب الأمة التقوا الإسرائيليين في الاتصالات التي جرت بين الحزب وإسرائيل خلال الفترة من 1954- 1958، وتشمل قائمة الكبار السيد محمد صالح الشنقيطي _ رئيس أول برلمان سوداني – والسيد عبد الله خليل.

سعدت إسرائيل بتلك الاتصالات التي نزلت عليهم برداً وسلاماً، وكانت إسرائيل تحتاج وقتها لمثل تلك العلاقات لتَفُكّ العُزلة المضروبة عليها وتحقيقاً – فيما بعد – لعقيدة ديفيد بن قوريون Bin Gorion Doctrine التي يشكل تحالف الحزام أو المحيط Periphery أحد أضلاعها الثلاثة. وبن قوريون هو من بلور نظرية الأمن الإسرائيلي تلك في 1957-1958. أمًا هذا الضلع الثالث (The eriphery) فيقوم على استقطاب الدول المحيطة بالدول العربية مثل تركيا وإيران وإثيوبيا والسودان.

وبغض النظر عن الاعتبار المبدئي، فإن علاقة حزب الأمة بإسرائيل لم تُبتدر من أجل مصالح السودان وإنما قامت من أجل مصالح الحزب فحسب، ولعل اتصالات مريم الصادق الخارجية منذ زيارتها المريبة للقدس في 2016، إنما جرت على ذات النسق واقتداءً ببعض سلفها الصالح. ويحمد الحامدون موقفاً مبدئياً صلباً للمرحوم الصادق المهدي ضد التطبيع. وحقيقة فإن تقارير قديمة تحدثت عن أن حزب الأمة تلقى مالاً سياسياً من فرنسا ومن بريطانيا، ومن إسرائيل.

وفي 1963 أجرى السياسي الجنوبي جوزيف أدوهو زعيم حزب سانو لقاءات بالسفيرين الإسرائيليين في كلٍ من كمبالا ونيروبي، طالباً دعم إسرائيل لحركة أنانيا Anya-Nya الوليدة، وكانت حجته المفرحة لإسرائيل هي “محاربة العرب”. وفي ذلك مكسب لإسرائيل بإشغال الجيش السوداني بحرب كبيرة تؤججها في الجنوب فيعجز أن يكون ظهيراً للجيش المصري. وبالفعل قامت إسرائيل بتأسيس أول معسكر تدريب عسكري للحركة ومدها بالسلاح والعتاد والمهمات والخدمات الطبية. وفي 1969 زار جوزيف لاقو إسرائيل بجواز سفر مزور من جزر القُمُر وبعِلْم الموساد وبتدبيرها، والتقى رئيسة الوزراء قولدا مائير. وكان أول من زار الجنوب للتعرف على حقيقة الأوضاع هو عضو الموساد ديڤيد بن أوزيل David Ben Uziel
وكتب فيما بعد واصفاً الجنوب بأنه “أرض مقطوعة الصلة بالله ومقطوعة الصلة بالإنسان” This was a territory cut off from God and man. واستمرت إسرائيل في إمداد جوزيف لاقو بالسلاح والعتاد إلى عام 1972 حين وقع اتفاقية أديس أبابا مع نميري. ثم استأنفت إسرائيل الدعم لدى تَسَلّم قرنق قيادة حركة التمرد، وزادت من دعمها لدى تسلم البشير السلطة في 1989. وزار جون قرنق إسرائيل ثلاث مرات وأجرى في إحدى هذه الزيارات عملية عيون.
وبإيعاز من عبد الواحد محمد نور، بعد أن افتتح مكتب لحركته بإسرائيل، تسلل شباب من دارفور لإسرائيل، وانتقى الموساد منهم عدداً فجَنّده ودربه على أعمال التجسس، ويتحدث البعض عن رجوعهم للسودان عبر يوغندا وعبر جنوب السودان!!!!

وكان عبد الواحد فتح مكتب حركته في مارس 2008، وقال دون أن يسأله أحد – من باب يكاد المريب يقول: خذوني – إنه افتتح المكتب لاعتبارات إنسانية وأنه لا يريد أي دعم سياسي أو مالي من إسرائيل!!! وفي أول فبراير 2009 زار إسرائيل برفقة يهود فرنسيين، وحضر مؤتمر هيرزيليا الشهير، والتقى في وزارة الدفاع الإسرائيلية بعامود جلعاد رئيس المكتب السياسي (المخابرات) بالوزارة. وقالت صحيفة هاآرتس إن عبد الواحد جاء يطلب دعماً إسرائيلياً!!!
ولعبد العزيز الحلو علاقات نشطة بإسرائيل، ولا زال ضابط الموساد يوسي روفائيل يزور كاودا، والتقى بقيادات من الحزب الشيوعي السوداني، ويدور حديث عن تعاملات الحلو مع الإسرائيليين في الذهب. وفي الأسبوع الماضي وصل وفد موساد إسرائيلي لكاودا وناقش مع الحلو تدريب قواته. وهنا تجب الملاحظة أن كلاً من عبد الواحد والحلو شيوعيون.

وحقيقةً يمكن التماس العذر للجنوبيين فهم متيقنون تماماً أن بيننا وبينهم فروقات كبيرة وأكبر من أكذوبة “منقو قل لا عاش من يفصلنا”!!! لكن كثيراً من سياسيي الشمال يتشدقون بالمبادئ لكنهم لا يتورعون من المشي فوقها بأقدامهم المُتّسِخَة. وفي حاضرنا تجد أن السنهوري ورفاقه يلعقون أحذية الغربيين الذين جعلوهم يتسللون من العراق لِوَاذاً، وهؤلاء الغربيون أنفسهم هم من نفذ سياسة اجتثاث البعث (Debaathification)، ثم لا يعترضون على سياسة التطبيع الجارية في السودان اليوم.

صحيحٌ أن النميري أجرى اتصالات بالإسرائيليين، لكنه لم يجنِ فلساً واحداً لقاء ذلك. وصحيح أن قوش أجرى لقاءً سرياً غامضاً مع يوسي كوهين مدير الموساد في فبراير 2019 على هامش مؤتمر الأمن في ميونخ، لكنه على الأرجح لم يستفد من ذلك مليماً.

وحدَّثني مختص في الشأن الإسرائيلي أن البشير منع قوش من التعاون الأمني مع الموساد، وكان قراره هذا أحد عوامل قناعتهم بضرورة العمل لإسقاطه. وكانت أحد جوانب نشاطهم في هذا الصدد تدريب شباب – معظمهم من الأحزاب اليسارية – في دُبي على برامج في السوشيال ميديا لشحن الشباب ضد نظام البشير، وشيطنة الإسلاميين، وحققوا في ذلك نجاحاً.

كتب أكثر من كاتب في الصحافة الغربية أن الموساد كان لاعباً أساسياً Key Player في اسقاط البشير.
وكانت إسرائيل قد قصفت منشآت صناعية عسكرية وغير عسكرية في السودان في عام 2008 وفي عام 2012 وفي عام 2014، وكثفت من دعمها لحركة قرنق، وأمدت قوات المعارضة الشمالية بالسلاح في أريتريا، ولم يستنكف الشماليون الدعم العسكري الإسرائيلي.

كانت اسرائيل شديدة الحرص على تطبيع علاقتها بالسودان لسبب جوهري وهو أن السودان كان البلد العربي الوحيد الذي يَمُد حماس بالسلاح، بل ويوصله إلى داخل غزة عبر الأنفاق. ومعلوماتي الأكيدة أن عمر سليمان (ومن وراء ظهر حسني مبارك) كان على علمٍ بذلك وكان يغض الطرف. وفي هيئة التصنيع الحربي السودانية تدرب المهندس المخترع التونسي محمد الزواري. والزواري تسلل من بعد عبر الأنفاق إلى غزة حيث صنع لحماس أول طائرة مُسَيّرة Drone، وأسمتها حماس أبابيل ولازالت تستخدمها ضد إسرائيل. كان الاسم الحركي لمحمد الزواري هو الحاج مراد. وبعد سقوط بن على رجع إلى تونس وهناك اغتالته الموساد. ولكل ما سبق ذكره ظل السودان غير المُطَبّع هاجِسَاً مُؤرِقاً لإسرائيل، وقد قالت إسرائيل إن الإسلاميين أشد خطراً عليها من جماعة عباس وفصائل العلمانيين الفلسطينيين الأخرى.

وحتى بعد نشوب المظاهرات ضد البشير جاءته وساطات من اسرائيل حدثته عن “إمكانية إخماد المظاهرات” إذا وافق على الذهاب لتل أبيب وتطبيع العلاقات، مما يشير إلى أن أصابعَ ذات صلة بإسرائيل لها دور في تحريك قادة المظاهرات، كما أشارت لذلك مصادر مرموقة مثل Mint Press news و Black Agenda Report وغيرها.

المؤكد الآن وجود عناصر الموساد بجوازات أمريكية داخل السفارة الأمريكية بالخرطوم ومنذ بضع سنين، وظلوا يلتقون بقيادات حزب الأمة والحزب الشيوعي والمؤتمر السوداني والبعث وغيرهم، كما كانوا ينسقون معهم العمل المعارض لنظام البشير . مشكلة الموساد أن من يلتقونهم يحبون الثرثرة ويتحدثون !!!
نواصل إن شاء الله

دكتور ياسر أبّشر عبد المجيد
—————————————
12 فبراير 2022

اترك رد