دكتور ياسر أبّشر عبد المجيد يكتب : صناعة ثورة الندامة (7)

السودان

الخرطوم : الرآية نيوز

دكتور ياسر أبّشر عبد المجيد يكتب :

صناعة ثورة الندامة (7)

كان لخالي محل للمرطبات في السوق، وكان يقف أمامه مجنون.. لاحظ خالي، الذي يحفظ القرآن، أنّ ذلك المجنون كان يتلو آيات من القرآن، فنفحه كوباً من عصير الليمون المثلج، وسأله عن القرآن . فأجابه المجنون أنه يحفظه.. وكان يقف أمام خالي كل يوم، وكل يوم يبدأ خالي آية فيكملها ويوالي القراءة، إلى أن يرمي له خالي آية أخرى فيوالي القراءة، إلى أن يوقفه، وفي كل يوم ينتهي الاختبار بكوب عصير الليمون، فتأكد أن المجنون يحفظ القرآن حفظاً جيداً، فقال له : «إنت بتحفظ القرآن كله، فكيف أنت مجنون» ؟؟
رد المجنون: «لكن الناس ديل كلهم قالوا أنا مجنون، أسوي شنو» ؟؟
ضحك خالي، وقال له: خلاص أنت من الليلة نسميك «شيخ المجانين»، وسارت عليه التسمية ولازمته، حتى صدقها وقبلها؛ لأن الناس كلهم قالوا: إنه مجنون وشيخ المجانين !!! ، وأصبحت له لازمة «Syndrome».
قصة شيخ المجانين هذه، هي ما حدث لنا قبل (الثورة) وبعدها.
قبل (الثورة) حدث ضيق معيشي، فخرجت احتجاجات وتظاهرات، ولكن تلك التظاهرات تمددت وزادت، وبلغت في أقصاها ألف متظاهر في الخرطوم، بشهادة خالد سلك المبثوثة في يوتيوب، وقدرها قوش في تصريح له موجود حتى اليوم في اليوتيوب ببضع مئات، واستمرت بهذا الحجم حتى يوم انقلاب ابن عوف في 11 أبريل 2019م.
دراستي وتَتَبُّعي لتلك المظاهرات وتمددها، ثم تعملقها في الاعتصام عقب انقلاب ابن عوف أكّد لي أن تمددها ثم تعملقها لم يكن عملاً عَفْوِيّاً.
صحيح أن الإنقاذ أخطأت في بعض جوانب الحياة.. وتطاول بقاء البشير في الحكم كان لوحده مجْلَبة لبعض ضيق وتَذَمّر.. ولكن المبالغات في أخطاء حكم البشير وتضخيم أخطائه، بل اختلاق ما لم يحدث أصلاً، واستهداف رموز الحكم جملة بالتجريح والتشهير، وإدانة كل الإسلاميين جملة بالإساءات والشيطنة كان عملاً مخططاً له بعناية كما سنبين اليوم.
وكنا في مقالات سابقة بَيّنَا أدوار المعونة الأمريكية وصندوق دعم الديمقراطية «NED» الأمريكي، وأدوار المخابرات البريطانية ودول غربية وعربية مجاورة في تمويل منظمات وتدريب مئات الشباب لتنظيم ضروب نشاط ضد حكم البشير.
ووفقاً لما نشرته «ويكيليكس» من وثائق سُرّبت عن نشاط المخابرات الأمريكية ووزارة الخارجية الأمريكية، وما ذكره سفراء كانوا في العواصم التي دُرّب فيها هؤلاء الشباب يتّضح أن الأسماء التى برزت أيام الاعتصام وما بعده مثل خالد سلك، ومدني عباس مدني، ونصر الدين عبدالباري، وبنت البوشي، وأميرة عثمان، وتهاني عباس، ومحمد الحسن عربي، وأمجد فريد، وآخرين، من الذين نُصّبوا في مناصب، كانوا كلهم ممن أُخْضِع للتدريب، وبَعْضهم تَسَلّمَ أموالاً بمئات ألوف الدولارات بحجة الحاجة لإنفاقها على المظاهرات والاعتصام وكُلّهم «تَحَسّنت أوضاعهم» بعد ذلك.
ونُذّكر اليوم بملايين الرسائل كانت تهطل على السودان ابتداءً من أواخر ديسمبر 2018م، وتوالى انهمارها طيلة 2019 – 2020م وشيئاً من 2021 بصورة لوحظ فيها تَوَحّد الفكرة مع اختلاف الصياغة.
الفكرة الأساسية تصوير الإسلاميين كفَسدة، أكلوا مال الشعب، وظلموه، وضيقوا الحريات عليه، وأبادوه في دارفور.
وهكذا انهمرت الرسائل والهتافات: «كيزان حرامية» و«يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور».. وفي النهاية لا شيء غير «تسقط بس» ، ونُبَشّر أنه سيعقُب ذلك نظام من الأطهار الوطنيين فيه يغاث الناس وفيه يعصرون، ليملأ الأرض «حرية، سلام، وعدالة»!!
عملت المنصات الإعلامية ومجموعات صناعة المحتوى على صياغة الشعارات والهتافات.. وكان للشيوعي وحده 63 منصة إعلامية متفرغة لعمل السوشيال ميديا.. أوكل الحزب الشيوعي أمر الإشراف عليها للشيوعية آمال الزين.. وكان الحزب الشيوعي أكبر المنسقين مع أجهزة المخابرات الغربية، التي رعت الحراك ضد الإنقاذ، وهي التي استخدمت شركة كمبردج أنيليتكا «Cambridge Analytica» الرهيبة لتقوم ببث ملايين الرسائل الموجهة للسودان ضد نظام البشير.
وكمثال، نكرر ما سبق أن كتبناه، وهو أن أكثر من 14 ألف حساب انطلقت من مصر والسعودية والإمارات والجزائر في يوم 13 يناير 2019م وحده!!
ولتوضيح صورة الافتعال والصناعة فلنتذكر أنه ليس في الجزائر كلها 300 سوداني، فكيف يكون بها حوالى 3700 حساب لسودانيين في فيسبوك ؟؟؟
وواضح أن الإجابة تكمن في ما كانت تعمله كمبردج أنيليتكا باستخدام نظام «البوت»، الذي يجري عبره خلق حسابات وهمية، وإعادة تدوير المحتوى، وإعادة بث الرسائل، وإعادة التغريد.. وتؤدي العملية التي تقوم بها كمبردج أنيليتكا بتضخيم العدد ، حتى أصبح هاشتاق «تسقط بس» هو الترند «Trend» الأول لشهور.
ونجم عن هذه العملية المصطنعة وحدها خلق رأي قوي مناهض للإسلاميين، الذين أصبحوا أقبح من الشياطين، خاصة في عقول الشباب البريئة الغضة.
ونجم عن كل العملية المصنوعة إقناع قطاعات من الكبار أن هذا تيار جارف، فخاف حتى العقلاء، مخافة أن يتعرضوا لتشويه السمعة، وانزوى أكثر الإسلاميين؛ لأن الحملة الطاغية ركنتهم لخانة الدفاع ولتبرئة أنفسهم حتى يخرجوا من دمغة: «كيزان حرامية».

كمبردج انيليتكا هي شركة مقرها في لندن، وتملكها عائلة روبرت ميرسر الأمريكي واستيف بانون الذي عمل في إدارة ترمب مدةً. واشتُهرت الشركة بمساعدتها لحملة ترمب الانتخابية ضد هيلري كلنتون، وجراء قدراتها الرهيبة أسقطت مرشحين لمجلس الشيوخ الأميركي.. وفي بريطانيا، تدخلت في حملة البريكست «Brexit» الخاصة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وتستخدم كمبردج أنيليتكا أساليب للتأثير على الرأي العام وفقاً لما يرغب فيه الشخص أو الجهة المستعدة لدفع الأموال، بعد دراسةٍ للرأي العام، ثم التلاعب به، والتأثير على الأفكار بضخٍ كثيف لرسائل يشترك فيها خبراء في «القياس النفسي» مثل مايكل كوسينسكي، وتستخدم ما يعرف بالجاسوسية الرقمية. وعملت مع جون بولتون – الذي عمل مع ترمب ثم عاداه – في التأثير على المواقع الرقمية ومحطات التلفزيون.
ولم يتوارَ الرئيس التنفيذي للشركة عن القول في القناة الرابعة البريطانية: إنهم أثّروا على الانتخابات الأمريكية، وإنهم استخدموا أساليب خبيثة لتشويه سمعة السياسيين المناوئين لعملائهم، بما في ذلك استخدام العاهرات، معتمدين على شبكات غامضة ومقاولين يعملون في الخفاء وشركات وحسابات وهمية.
وللشركة خبراء للتأثير النفسي وسَوق الجماهير للاتجاه الذي يرغب فيه العميل باستخدام الرسالة الإعلامية المكثفة.. يمكنهم استخدام حتى الحروف لخلق صورة ذهنية سالبة عن الشخص الذي يستهدفونه، مثلما حولوا حرف «O» في عبارة «Clinton hOOked» لكلباش.
تقول الشركة: إنها «وكالة تغيير سلوك» عملت في بلاد عديدة.
ومعروف تأثيرها على الانتخابات الكينية عام 2013م.
وعملت لصالح الأقلية الهندية في انتخابات توباقو وترنداد باستخدام عبارة «Do So» مع صورة يدَين متقاطعتين، بما يعني قاطع الانتخابات ولا تصوت، وتم ضخها بكثافة شديدة.. ومَرّت الخِدعة لصرف الأكثرية السوداء عن التصويت فقاطعوا، وهكذا تمكّنت الأقلية الهندية من الفوز برئاسة البلاد.
وكانت «Do So» في تأثيرها مثل تأثير «تسقط بس» في السودان، التي اقترحتها كمبردج أنيليتكا منذ بداية المظاهرات.. ألا تذكرون أن «تسقط بس» نزلت جاهزة ومرفوعة في لافتات مطبوعة؟؟ وكذلك نزلت جاهزة: «حرية سلام وعدالة» ولم تكن هتافاً عفوياً تَوَلّد من داخل الجماهير المحتجة.
واعترفت كمبردج أنيليتكا بالعمل بقوة في زمبابوي وفينزويلا والسودان.. وكلها بلاد استهدف الغرب تغيير قياداتها.. ولأنه «من ثمارها تعرفونها»، فقد عرفنا أن من كان وراءها تمويلاً هي البلاد التي اجتهدت لسنوات لإسقاط البشير عبر المنظمات، التي دربت قيادات الحراك، الذين انكشف الآن أنهم مجرد عملاء.
أمّا ابني وابنك وبنتي وبنتك فقد ظنّوا – بتأثير الدعاية الطاغية – أنهم من صنع (الثورة) ولم تدرِ غالبيتهم حتى اليوم أنهم كانوا فقط قطعاناً ، أو طُعمة مدافع «Cannon Fodder»..كل هؤلاء الشباب سيطر عليهم الضخ الإعلامي عبر السوشيال ميديا، فأصابتهم متلازمة « شيخ المجانين»، وصدقوا أن «الكيزان حرامية».. مات بعضهم وهم يهتفون بــــ «متلازمة شيخ المجانين»، ليصنفوا شُهداء وجرحي يُهتف بأسمائهم ثم يطويهم النسيان، ليصعد الكرزايات على كراسي الحكم الوثيرة.

( لمعرفة المزيد عن كمبردج أنيليتكا يمكنك مشاهدة «Netflix» وماكتبته القارديان ونيويورك تايمز والأبزيرڤر ومشكلتها مع فيسبوك ).

نواصل إن شاء الله.

دكتور ياسر أبّشر عبدالمجيد
——————————————
21 فبراير 2022

اترك رد