في ذكرى وفاة الترابي : مالذي يجب أن نعلمه للصغار عنه ؟

السودان

الخرطوم : الرآية نيوز

هشام الشواني يكتب :

في ذكرى وفاة الترابي: مالذي يجب أن نعلمه للصغار عنه ؟

في ذكرى وفاة حسن الترابي هذه أرغب في إثارة مسألة مهمة تتعلق بهذا الرجل، هذا الرجل مهم جدا في تاريخ السودان الحديث، لو سألتني عن شخصية تصلح لتكون رمزا للسياسة السودانية في مرحلة (ما بعد الإستعمار) كلها لقلت لك هو حسن الترابي. وما أفكر فيه هو كيف نجعل جميع السودانيين يفهمون موقع هذا الرجل من التاريخ؟ وكيف نعلم أبناءنا الصغار معرفة الرجل وتذكره واحترام ما رغب فيه حقا؟ كيف نجعلهم يتعرفون على قصوره قبل أن يتعرفوا على نجاحاته، لأن ماهو مهم وثمين حقا في حياة الترابي هو ما قاله وأشار إليه وعجز عن تحقيقه! فما قاله هو الأفق والهدف الحضاري البعيد الملتحم بهذه الأرض وإنسانها وهويتها، والعجز في ذلك كان حتميا لأن شروط التاريخ والواقع، وظروف الحقبة المنحطة التي نعيشها لا تمكن الفرد ولا تمكن الجماعة من فعل شيء عظيم. حركة التاريخ أقوى من كل فرد، لذا عصور الانحطاط تكون دوما عصورا للبطولة الفردية، تكون عصرا لبطولة الأفراد المهزومين، الطامحين، المجانين، أشباه الأنبياء، الذين يكشفون حركة التاريخ، ويرون اللامرئي وسط المتناقضات. حسن الترابي من طينة هؤلاء البشر، هؤلاء هم بصيرة الأمة لحركة التاريخ القادمة من بعدهم.

السياسة اليومية والحزبية مثيرة للشغب، محفزة للصراع المؤقت الغبي، ولذا فإن شغبا كثيرا يحوم حول شخصية الترابي، شغب تثيره خصومات زائلة آنية حول النفوذ والسلطة، ولكن هذه أشياء مؤقتة قصيرة المدى، هنا نجد المستويات الدقيقة الجزيئية الفرعية بلغة الكيمياء للتفاعل التاريخي، لكن المستوى الكلي لحركة التاريخ سيغيب عن أنظارنا حين ننشغل فقط بالمستوى الصغير فقط، فدعونا نفكر في الكلي macrohistory وننسى الجزيئي قليلا microhistory.

حسن الترابي من الجيل الثالث منذ بداية الإستعمار، الجيل الأول رمزه المثقف الوطني عبيد حاج أمين المثقف وقمته مع ثورة اللواء الأبيض، والجيل الثاني رمزه السياسي إسماعيل الأزهري رجل مؤتمر الخريجين والرمز الاتحادي محدود الرؤية، النشيط والمتحمس للسياسة السطحية، وقمة الجيل الثاني في الاستقلال البرلماني عام ١٩٥٦. أما الجيل الثالث بعد الاستعمار فرمزه حسن الترابي، وهو الجيل الصاعد بعد ثورة ١٩٦٤ لأن ما قبلها هو متصل بممارسة الجيل الثاني.

حسن الترابي في الجيل الثالث حمل أشواق البناء الوطني السوداني، وهنا نجد أول قاعدة يجب علينا تعليمها للأبناء الجدد الصغار. قاعدة تقول: البناء الوطني لا ينفصل عن البناء الحضاري، ولا يمكن بناء السودان دون رؤية حضارية أوسع من حدود الدولة القطرية لمستعمرة بريطانية. وهنا فالترابي نظر للإسلام ببعده الحضاري ثم الوطني، فلم يكن داعية تقليدي للخلافة القديمة، بل كان داعية معاصر في فضاء الدولة الحديثة كشرط قائم، لكنه فهم جيدا أن تركيبها السوداني لن يتم بغير تركيب حضاري أوسع يتمثل في ثلاثة جوانب هي: الإسلام-اللغة العربية-أفريقيا.

حسن الترابي قائد إسلامي إفريقي قبل أن يكون سياسي سوداني محلي. وهذا الجانب غير مرئي في أن الترابي رغب حقا في (إمبراطورية سودانية) في شرق أفريقيا تستقطب وتجذب حضاريا جيرانها شرقا وغربا، هذا التوجه الاستراتيجي هو توجه خطير على الإمبريالية الغربية، وعلى الأنظمة التابعة لها من حولنا. مع حسن الترابي ولأول مرة تحول السودان في السياسة الدولية من مجرد (قضية مصرية) ليصبح قضية مستقلة قائمة بذاتها. ولكم أن تتخيلوا أن مشروعا مثل (المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي) الذي كان أمينه العام حسن الترابي هو أهم تحالف سياسي مضاد للإمبريالية في المنطقة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ومنذ حلف عدم الإنحياز في باندونغ عام ١٩٥٥. هذا المؤتمر جمع قوميين عرب واشتراكيين وإسلاميين من أنظمة كلها ترفض الخنوع لهيمنة أمريكا، وفي أجواء تلك التسعينات كان هذا هو الخطر البديل المواجه للغرب. ومن أهم صناعه ومنظريه السياسيين كان الترابي السوداني الأفريقي العربي المسلم. حسن الترابي هنا امتداد للثورة المهدية بعد حوالي ١٠٠ عام منها، لكنه يتجاوزها فهو كذلك امتداد ل(عثمان دان فودي) في نجيريا، والسنوسية في ليبيا والوهابية في الجزيرة العربية، لكنه فكريا أكثر قربا من جيل الإصلاح الدستوري والتجديد الإسلامي ومن رموزه محمد عبده ومحمد رشيد رضا وحسن البنا وغيرهم.

ما يحب أن نعلمه للأبناء الصغار كذلك عن الترابي هو أنه نظر للسياسة ببعديها؛ العملي والفكري في وقت واحد. وهذا قدر قاسي جدا تفرضه علينا طبيعة مرحلتنا التاريخية الراهنة، فالمهمة ذات طبيعة مزدوجة؛ مهمة أولى للفكر والفهم ومهمة موازية للعمل والممارسة، فكر وفهم للتاريخ الإسلامي والموروث وتجديده واستيعاب للفكر الغربي، مع ممارسة ملحة لابد منها لقضايا لا تنتظر. هذه مهمة مزدوجة وخطيرة لكنها ضرورية. الترابي صنع معادلة متزنة معاملها المستقل هو العمل والممارسة ومتغيراتها التابعة هي الفكر والفهم، العمل فوق الفكر، والفكر موجه لمتطلبات العمل في علاقة جدلية. لذا فالترابي حين كتب عن قضايا المرأة كتب لتثويرها وربطها بأصول الدين والهوية وهذا ما حدث فعلا، وحين كتب عن الشوري كتب لقضية يسميها “البناء الديمقراطي في الإسلام” وحين خاطب الناس كان يذكر البعد الحضاري والأممي دائما.

هذه شخصية كثيفة ممتلئة بالمعاني، وتصلح في مرحلتنا الراهنة لتكون برنامج عمل جماعي يعمل فيه المنشغلون على كل جانب لوحده، وهذه طبيعة حقبتنا الحالية. حسن الترابي هو (اليساري) بالمعنى الثوري العملي ضد هيمنة الغرب، وهو (اليميني) القومي المتصل بالحضارة الإسلامية والتوجه الثقافي، وهو المعتدل في آخر حياته من أجل الحوار الوطني من أجل بناء الأمة وتجاوز الصغائر، في الحقيقة يبدو لي حسن الترابي اليساري الأهم في تاريخ السودان، و(اليميني) الأكثر أهمية على الاطلاق.

نعود لشغب السياسة التافه الذي يربي نفوس الكثيرين على الكراهية والجهل، كراهية حسن الترابي قصور وعجز وحقد أعمى، أما محبته العاطفية بلا وعي فهي جهل واتباع وتقليد. حسن الترابي رجل يجب أن يحترمه كل سوداني وطني قبل أن يحبه، يحترمه ليتعلم منه ومن سيرته، ومن ثم سيجد نفسه محبا لرجل هو مهدي النهضة السودانية في العصر الحديث بحق وحقيقة.

رحم الله حسن الترابي
مقال كتب في ٢٠٢١

اترك رد