هشام الشواني يكتب : عن تجربة الإنقاذ

السودان

الخرطوم : الراية نيوز

هشام الشواني يكتب :

عن تجربة الإنقاذ

” من المهم إذن وبحسب مدخلنا المتصل بالنظر والاعتبار بتجربة الإنقاذ من حيث هي تجربة إسلامية، أن نضع معايير محددة لتقييم التجربة، وفي نظرنا فإن هذه المعايير يُمكن استخلاصها من الشعارات العامة والأهداف الكُلية للحركة الإسلامية السودانية. فتدور حول ما تحقق للإجابة على هذه الأسئلة:

كيف يتحرر السودان وينهض بالدين؟ كيف ينفك من التبعية السياسية والاقتصادية؟ كيف تُبعث في مجتمعه حركة للدين وعودة لله بعد أن غشيت البلاد ثقافة المستعمر؟ كيف يتربى جيل جديد كامل على تعاليم القرآن والإسلام وهدايته؟

هذه الأسئلة قد تصلح بشكل مناسب لتقييم التجربة، وقبل ذلك لفهم تحولاتها في ظل حركة التاريخ الكلية لمجتمعات المسلمين. فالسودان منذ نيله الاستقلال العام 1956 كان مواجها بمشروعين خارجيين لهما قواعد في السياسة الداخلية:-

الأول مشروع مواجهة (الحكومة السودانية) بغرض استتباع سياساتها لمصلحة مراكز قوى خارجية. والثاني هو مشروع حصار (الدولة السودانية) ككل، حصارها من أجل تفكيكها و تقسيمها وضرب مشروع نهضتها والفرق بالطبع واضح بين مواجهة حكومة ونظام سياسي مؤقت وبين حصار الدولة ككل. القوى السياسية السودانية توزعت بين هذه المشاريع إما مقاومة أو تحالف أو تبعية، والإسلاميون السودانيون كانوا جزء من القوى الوطنية التي دخلت في هذا الصراع الطويل ضد مشروع خنق السودان ومنع تطوره. لاسيما وأن النظام السياسي السوداني ورث بذور صراع متفجر ذو طابع عرقي وثقافي بين الشمال والجنوب كانت تتم تغذيته من قوى الصهيونية والامبريالية العالمية، وكذلك ورث نظاما اقتصاديا يُكرس لمركزية قابضة تهمش الأقاليم والأرياف. في ظل هذه الشروط القاسية كان الزمن يمضي على عهود الدولة السودانية فتضعف في كل مرحلة آمالها في النهضة، ذلك المشروع الذي لم تتفق النخبة السياسية السودانية على تصور واضح المعالم حوله. ولا ننسى أنه وبسبب ومن التخلف الاقتصادي والاجتماعي لم تتح الهياكل المادية للقومية السودانية الثقافية أن تتشكل من عناصرها الكامنة لتربط جموع السودانيين مع بعضهم البعض مما زاد الطين بلة. في خضم نهر السياسية السودانية هذا، جاءت الإنقاذ كلحظة تتويج لمشروع سياسي وطني محلي، بحمولات أيدلوجية كبيرة، بكتلة تنظيم ناضج و متماسك وقوي، له وجود في أوساط المتعلمين ومؤسسات الدولة والقوات المسلحة، وله جمهور من فئات السودانيين شرقا وغربا شمالا وجنوبا. وهذه اللحظة كانت تتويج لربيع الحركة الإسلامية في السبعينات وأواخر حكم النميري.

سعت الإنقاذ لبناء الدولة عبر كتلة ضخمة من الموظفين والتكنوقراط ممن تلقوا تعليما في الخارج، مضاف لذلك حاولت استيعاب كتلة الموظفين السودانيين والمتعلمين الجدد لمشروعها وهنا تظهر طبيعة (الحواضن الاجتماعية للإنقاذ) من الطبقة الوسطى الجديدة في المدن وأهالي الأقاليم والريف، البرجوازية السودانية الأصلية المتكونة منذ عهد الاستعمار واجهت في غالبها مشروع الانقاذ بالعداء ووقفت في وجهه، لاسيما وأن خلفيتها كانت خلفية منحازة لقوى اليسار التقليدي في نسخته الليبرالية.

مع الإنقاذ هاجرت غالب هذه الفئات للخارج وتركت فراغا في المدينة تم شغله بطبقات مدينية جديدة ذات جذور ريفية. وهنا أصبح المشهد من ناحية اجتماعية طبقية جليا واستمر على هذا الخط منذ البداية حتى النهاية. وما يُلاحظ هنا هو أن الإنقاذ رغم رفعها شعارات التحرر من التبعية ورغم سعيها للتعامل البراغماتي مع النظام الرأسمالي العالمي عبر صيغ (رأسمالية تجارية قومية) إلا أنها فشلت في كسر الشرط الاستعماري للتركيب الاجتماعي والطبقي الموروث، فاستمرت مظاهر الهجرة من الريف للمدينة ومظاهر بروز أثرياء جدد في نظام رأسمالي يتضمن الفساد من داخله، لكن تلك الحقبة في المقابل شهدت على (تدخل فعال) من قبل الدولة في الاقتصاد، فزادت أفقيا من عدد الجامعات والطرق وشهدت طفرة في البنية التحتية. إلا أن أقوى الملاحظات تتعلق بزيادة قوة البناء الاقتصادي والإداري للمؤسسة العسكرية والأمنية السودانية.

من هنا يظهر لنا أن الإنقاذ قد كثفت من الحمض النووي العميق للدولة السودانية وهويتها، على الضد من مشروع حصار وتفكيك الدولة السودانية ممثلا في الحركة الشعبية لتحرير السودان وقوى أخرى، وهذا التمييز ليس واضحا أو حديا وصارما بين المشروعين بل هو بمثابة خط بياني متصل تتوزع بين طرفيه القوى السياسية والفاعلين داخل النظام وخارجه، الإسلاميون في طرف ومشروع تفكيك السودان في الطرف الآخر.

كان الحصار الخارجي ومحاولات التركيع المستمرة لهذا النظام المارق من بيت الطاعة الدولي من أهم أسباب السقوط السياسي للإنقاذيين الإسلاميين تحديدا -لأن مابعد أبريل 2019 بطريقة ما لا يزال امتدادا للإنقاذ- بجانب ذلك فأسباب الفشل الداخلي والصراع السياسي داخل تنظيم الإسلاميين والفساد من الأسباب التي ساعدت خصوم الإنقاذ على خلق (صورة شريرة) مضللة غير منصفة حول الإنقاذ. عبأت هذه الصورة الشريرة جموع كبيرة من الشباب السوداني وساهمت دوائر خارجية لتضخيمها ومن أوضح الأمثلة على ذلك قضية دارفور. فقد كانت ساحة للمزايدات والبروبغاندا الخارجية بشكل قد لايعكس تعقيد الصراع الاجتماعي والسياسي في الإقليم، لتأتي لحظة ديسمبر فتكون لحظة اجتمعت فيها ثلاث عناصر أدت للسقوط:-

1- العامل الخارجي ممثلا في أنظمة إقليمية توقفت عن الدعم المالي للنظام، بجانب مراكز قوى أخرى وصلت لقناعة بضرورة إزاحة نظام البشير من الحكم خصوصا بعد فشل الحوار الوطني وتصورهم للهبوط الناعم.

2- العامل الاجتماعي ممثلا في وصول الكتلة الشبابية لمرحلة انفجار بسبب الظروف الاقتصادية، فكانت وسائل التواصل الاجتماعي أداة فعالة لتكوين مخيال جمعي جديد صنع أحلام رومانسية بخصوص الثورة والتغيير، لكنها أحلام شديدة التأثير والفاعلية.

3-العامل السياسي الداخلي وهو يتعلق بجانبين،

أ-القوي السياسية السودانية وتحالفاتها التي تمت بعيدا عن عملية الحوار الوطني بجانب كتل لناشطين سياسيين سودانيين أنشأوا واجهة سياسية بمسمى (تجمع المهنيين السودانيين). هذه الكتلة الموزعة بين سياسيين وفاعلين في المجتمع المدني المعارض المتصل بالخارج والحركات المسلحة تحالفت تحت عنوان عريض هو ( قوى الحرية والتغيير ) لتمثل الخطاب السياسي والتنظيمي لثورة ديسمبر.

ب- مراكز قوى داخل نظام الإنقاذ نفسه وهذه المراكز كان لها دور كبير من جهة قدرتها الفعالة والخفية على التأثير وامتلاكها القوة والمعلومة والمال. هذه المراكز نشأت نتيجة لصراع طويل داخل أوساط الإسلاميين ودوائر النظام ومؤسساته الأمنية والعسكرية. المؤكد هو أنها تحالفت مع العامل (أ) والعامل الخارجي (1) للوصول لصيغة مابعد ديسمبر.

على أي حال كان مشروع الإنقاذ ذروة سنام المشاريع الوطنية التي سعت لبناء السودان المستقل والقوي، وهي كذلك امتداد للنخبة السياسية السودانية منذ ما بعد مرحلة مؤتمر الخريجين، وهي لا تختلف في صورتها الكلية عن ما رسخ في الثقافة السياسية السودانية من طرق الوصول للسلطة التي كانت تحدث إما عبر الانتخابات وطريق الديمقراطية الليبرالية أو عبر الثورة الشعبية أو عبر الانقلابات العسكرية.

لقد سعت الانقاذ لخلق إجابة عملية على سؤال كيف يتحرر السودان بالدين؟ فعملت لبناء الدولة القوية والسيطرة عليها، وسعت لتحشيد طاقات السودانيين في تحدياتها بالذات في مرحلة الجهاد في جنوب السودان. هذا المسار العملي هو الطريق الوحيد الممكن لبعث الروح الإسلامية والوطنية من جديد. وهنا لابد من الإنتباه لحقيقة أن الحركة الإسلامية السودانية في جانب من جوانبها هي حركة للقومية السودانية وليست حركة طائفية أو حركة إخوانية مغلقة، ففيها توحد السودانيون من مختلف القبائل والأعراق، وتجاوزت عبر فكرة الدين الانتماءات البسيطة لتخلق انتماء جديد مركب لهوية سودانية إسلامية لا تعارض بين إسلاميتها وبين قوميتها ووطنيتها. هذا الأمر هو من أهم نقاط القوى العميقة في مشروع الحركة الإسلامية قديما ومستقبلا.

كذلك جاهدت الحركة لتكييف مؤسسات الدولة الحديثة مع الفقه الإسلامي السياسي لتصنع مشروع الدولة الإسلامية، وهنا فإن جوانب التنظير والتأسيس لا تنفصل كثيرا عن طرق الحركات الإسلامية وهواجسها الفكرية والتنظيمية ونضالها ضد مشاريع التغريب والعلمنة من ناحية، وصراعها كذلك مع الرؤى المقلدة لتراث الإسلام بشكل حرفي. الحركة الإسلامية كانت صوت الإسلام في المجتمع الحديث وبالتالي صوته في عالم الإنسانية المُعاصر، لكن أزمتها هنا لا تنفصل عن أزمة الدولة الحديثة من حيث هي دولة حديثة، فيكون التساؤل حول أسلمتها ليس مجرد تساؤل إجرائي يُحول الديمقراطية للشورى والبرلمان لأهل الحل والعقد، بل هو سؤال فلسفي وتاريخي عميق يتصل بمباحث الأخلاق السياسية والفلسفة السياسية، ومنجز الحركة الإسلامية التاريخي والتقدمي هنا هو كشف ضرورة معالجة هذا النموذج السياسي وهي ضرورة راهنية عالمية، كذلك عبرة تجربتها هي كشف خلل المقاربات التي تكتفي بأسلمة الأشكال والمؤسسات السياسية في الحكم والإدارة.

لم يكتمل بعد مشروع التحرير والنهضة بالدين، ولم تتبدل دواعي التجديد وبعث الإسلام في السياسية، لذلك فإن تقييم تجربة الإنقاذ يستدعي عدم التهوين من أهمية مشروعها وعدم التهوين من العامل الخارجي والحصار في سقوطها، لكن أوجب الأمور كذلك هو الإنتباه للعامل الحاسم في نهاية مشروعها السابق، والذي سيكون العامل المحفز لبداية انطلاقة جديدة ونعني تحديدا العامل الاجتماعي.

فإذا كان الابتلاء والتحدي القديم للحركة الإسلامية هو ابتلاء العلمانية السياسية ودعاوى فصل الدين عن الدولة، فإن الابتلاء اليوم أعظم وأضخم وهو ابتلاء التحولات الثقافية في المجتمع التي تبعد الإنسان والسياسة عن الدين والأخلاق يوما بعد يوم. وهذا ما أسميناه العامل الاجتماعي للسقوط . هذه التحولات تنتج عن شروط الحداثة والعولمة ومأزق الإنسانية ككل في ظل النظام الحالي، زيادة تقسيم العمل والتخصصية عمًق من الفردانية، وشيوع المادية مع النظام الاقتصادي الحالي أبعد الإنسان كثيرا عن الدين، ثم تعقيد الحياة مع ثورة تكنولوجيا التواصل الحديث خلقت تحدي حقيقي أمام التدين ليكون السؤال الخطير اليوم: كيف يعيش المسلم في هذا العصر ويحيا بدينه في ذات الوقت؟ وهنا فإن التفكك والتحلل الذي أصاب الإنقاذ وقاد لسقوط جانبها الإسلامي هو تفكك نابع من شروط قاهرة ذات طبيعة ثقافية واجتماعية واقتصادية تفرض على الحركة الإسلامية تحديا جديدا من شأنه تحفيز طاقة المسلمين المنفعلين بدينهم لمواجهة هذا الابتلاء بتجديد واجتهاد فكري وجهاد عملي وسياسي ”

من ورقة: ” الإسلاميون السودانيون والمستقبل”

اترك رد