ياسر أبّشر يكتب: المرشد إلى بيع الأوطان (1)

السودان

الخرطوم : الراية نيوز

ياسر أبّشر يكتب:

المرشد إلى بيع الأوطان (1)

لأن الحكام يخطئون، كان لزاماً وجود نظام ضبط ورقابة check and Balance يعيد التوازن لمصلحة الدولة. وعادة يكون نظام الضبط والتوازن رقيباً من داخل الدولة، ومن بين أجهزة هذا النظام وجود معارضة. فالمعارضة لأي حكومة في أصلها عمل حميد.

على أن البعض يخلط بين معارضة الحكومة أو الحاكم ومعارضة الدولة نفسها. وكما أن معارضة الحاكم موضوعياً من قبل بعض مواطنيه فعل مستحب، إلّا أن معارضة الدولة عمل خبيث، بل هو خيانة. وإذا اقترنت معارضة الحكومة بالاستعانة بأجانب فهي خيانة تجعل من مقارفها عدواً داخلياً شديد الخطر على الدولة. والعدو الداخلي أشد خطراً على الدولة من العدو الخارجي.
كان إبراهيم عضّة (وهذا هو الاسم الذي اُشتُهِر به) وهو سوداني يقييم ببيرمنجهام يقوم بتزوير وثائق زمن الإنقاذ يبيعها لطالبي اللجوء ببريطانيا وغيرها من الدول الأوربية. ورغم أن ذكاءه كان يفضحه حين يزور وثيقة إلّا أن السلطات البريطانية وسلطات بلدان أوروبية أخرى كانت تقبلها وتمنح اللجوء لحاملها. فمثلاً كان إبراهيم عضّة يضع الهدهد في أعلى جانبي الوثيقة إذا أراد أن يزور وثيقة لطالب لجوء عن جهاز الأمن السوداني، هذا في حين أن جهاز الأمن يضع شعار هدهد واحد في الأعلى في منتصف الصفحة!!!
وحين يتيح المعارض نفسه لأجهزة مخابرات أجنبية تتلقفه. وتعمد أجهزة المخابرات للتخفّي دائما، وهكذا تتخذ غطاءً Cover تعمل تحته، وبقدر الذكاء في اختيار الغطاء يكون النجاح. فقد كانت مخابرات دولة ما تعمل من خلال معهد تدريس الكمبيوتر في الطابق الثاني في مبني في شارع الجمهورية، وأخرى تتخذ من مركزها الثقافي بالخرطوم غطاءً لأعمال التجسس، وثالثة تعمل من خلال منظمة تدَّعي أنها لتطوير قدرات الشباب، ورابعة تجعل من عميلها شحاذاً يتخذ من مواقع محددة مجالاً لحركته للمراقبة وتلقي تقارير ممن يعملون معه، وهكذا.

في الجهة الأخرى تجتهد أجهزة الأمن والمخابرات في اتخاذ التدابير التي تُحصّن الدولة. فإذا ضعف جهاز المخابرات أو حُلّ نشطت الدول في اختراق البلد كما حدث للسودان حين حُلّ جهاز الأمن بعد ما يسمى انتفاضة رجب 1985.

وبعد كارثة الحل تلك، اتّسم الجهاز الذي أقيم بعد ذلك بضعف شديد.

ومن خيباته وقتها وضع جهاز الأمن بائع بطيخ قبالة السفارة المصرية لمراقبة الداخلين والخارجين. وبعد أسبوع نزل السفير المصري من مكتبه واتجه لبائع البطيخ، واختار بطيخة وسأل بائع البطيخ:
“ومال بطيخ عبد الرحمن فرح ده بكام ؟؟ ” فلم يجد رئيس الجهاز السيد عبد الرحمن فرح مخرجاً غير التوجيه بسحب بائع البطيخ من أمام السفارة ليتلافى كلا الخطأين غير الذكيين في اختيار نوع الغطاء والموقع!!!

تتملكني قناعة أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه . الذي أوصلني لهذه القناعة أن قوى بعينها كانت وراء إسقاط صدام حسين وتفتيت سوريا ، وما حدث بليبيا ومصر وتونس ، وما حدث بالسودان . القوى التي فعلت ما فعلت بهذه الدول هي نفسها التي أطاحت بالسلطان عبدالحميد ، وسنأتي لتفصيل هذا ،
وسنأتي لصلة ما ذكرناه بالواقع السوداني في المقال التالي لهذا.
وأفيد اليوم أنني توفرت على دراسة أسباب انهيار السلطنة العثمانية، وتحديداً الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني ( 1909 ) آخر سلاطينها، فوجدت تشابها مريعاً بين سقوطه وسقوط البشير، لأن أهم تشابه وعامل في الإطاحة بهما هو العامل الخارجي.

ففي حالة عبد الحميد كان هناك اليهود الصهاينة الحانقون على عبد الحميد الذي أجهض مساعيهم للحصول على وطن في فلسطين رغم إعراب ثيودور هيرتزل عن استعدادهم لسداد 150 مليون جنيه استرليني. عندها اجتهدوا عبر اليهودي عمانويل كراسو وآخرين ،فكوَّنوا جمعية تركيا الفتاة التي جندوا فيها الشباب وطلاب الجامعات ضد عبد الحميد. أما عمانويل كراسو هذا ، فقد كان (الأستاذ الأعظم) لمحفل مقدونيا ريزوليتا الماسوني.

ومن كبار الضالعين في اسقاط عبد الحميد اليهودي الشيوعي
ألكسندر إسرائيل هيلفاند والشهير بـ “بارفوس”، الذي كان تاجر أسلحة وصحفي، ثم أصبح المستشار السياسي لحزب الاتحاد والترقي المنبثق عن جمعية الاتحاد والترقي .

وأقام ثيودور هيرتزل باسطنبول ينسق العصيان والتمرد ضد عبد الحميد. ومعروف أن هيرتزل هو الذي كون الحركة الصهيونية العالمية (بازل – 1897).

ونسَّق هؤلاء اليهود مع يهود الدولة العثمانية المعروفين بالدونمة (دونمة بالتركية تعني العائدين أو المرتدين) وهم يهود أظهروا الإسلام وأبطنوا اليهودية.

ثم كوَّن اليهود جمعية الاتحاد والترقي التي طوروها لحزب فيما بعد، وعملوا عبر الجمعيات والمنظمات لتشويه صورة عبد الحميد، ونجحوا في تأليب الشباب عليه. هذا رغم أنه أقام الجامعات وبعث الطلاب للدراسات العليا في أوروبا ونمّى البلد وطورها. كان شعار الشباب الثائرين ضد عبد الحميد:
“حرية مساواة وعدالة”!!!
وعبر الإعلام الذي كان هيرتزل يتولّاه شخصيا شنّوا حملاتهم ضد عبد الحميد حتى شاع في أوروبا وفي تركيا الاسم الذي اتخذوه له، وهو: “السلطان الأحمر”، بمعنى أنه دموي قاتل، هذا رغم أنه كان متسامحاً لدرجة التهاون، وكان تسامحه مع من ثبت تآمرهم عليه وترتبهم انقلابات عليه عدة مرات مغرياً بتواصل التآمر. ومعلومٌ أن الحكم لا يستقر لمن لا يريق دماء من أثبت القانون خيانتهم أو عمالتهم.

وكان عبد الحميد مثقفاً واسع الثقافة، ويتحدث اللغة الفرنسية والعربية والفارسية ، بالطبع بجانب التركية . وكان متديناً عابداً زاهداً، خيراً، وتطرّق شاذلياً. وكان شديد الاهتمام بأمر المسلمين حتى الذين كانوا خارج سلطنته، كاهتمامه بأمر المسلمين الهنود، بل حتى الأقلية المسلمة في كوبا، Believe it or not!!

وكان عبد الحميد مخلصاً لبلده يعطيها كل وقته، لدرجة أن ابنه كان يشتكي أنه ما كان يجد لهم وقتاً . وفي السياسة كان ذكياً، مفاوضاً ومحاوراً ممتازاً. وكان رجلاً قوي الشخصية رغم إفراطه في التسامح.

بعد هزيمة عبد الحميد لليونان في الحرب ( 1897 بسبب احتلال اليونان لجزيرة كريت العثمانية ) ، شن الإعلام الغربي (وقتها كان صحافةً فقط) حملة ضارية ضد عبد الحميد، واتهموه بالإبادة الجماعية وارتكاب مذابح، ووصل به التآمر أن حاكموه بالإبادة والمذابح في محكمة انعقدت جلساتها داخل السفارة البريطانية في اسطنبول (وفقاً لاتفاقية فيينا تعتبر أرضاً بريطانية)، هذا علماً بأن المنطقة التي اتهموه بالمذابح فيها لم يصلها جيشه!!!!

اضطهدت أوروبا اليهود وقتّلتهم لمدة ألف عام، ثم طردوا مع المسلمين من اسبانيا عام 1492 (نفس عام اكتشاف أميركا)، وآوتهم السلطنة العثمانية ووجدوا فيها ملاذاً آمناً ووظفتهم حتى في الوظائف العليا، إلّا أنهم انقلبوا عليها بسبب رفض السلطان عبدالحميد منحهم فلسطين كوطن ، وعبر نفوذهم في الإعلام شنت الصحافة الغربية حملةً على عبد الحميد اتهمته باضطهاد المسيحيين واليهود.

ثم جعلوا بعض دول البلقان تتمرد عليه تمرداً عسكرياً، مدوا فيه المتمردين بالسلاح والدعم السياسي والاعلامي.

لو أننا أمْعنَّا النظر لوجدنا أن الخطة التي أسقط بها البشير ترسمت نفس خطى إسقاط عبدالحميد . نفس السيناريو رغم أن المسافة الزمنية بين الحدثين تبلغ 110 من السنين . وهذا ما سنبيّنه غداً إن شاء الله .

ياسر أبّشر
————————————
25 ديسمبر 2022

تعليق 1
  1. […] ياسر أبّشر يكتب: المرشد إلى بيع الأوطان (1) […]

اترك رد