إبراهيم عثمان يكتب : سبتمبر ١٩٨٣ والأثر الباقي .. الخمور نموذجاً

السودان

الخرطوم:الرآية نيوز

سبتمبر ١٩٨٣ والأثر الباقي .. الخمور نموذجاً

يستغرب الكثيرون من برود الحكام وعدم انشغالهم بالرد على الاتهامات المتكاثرة لهم بأن بعضهم يتعاطون الخمور، وهذا لا يجب أن يكون مستغرباً بل المستغرب هو أن يتوقع الناس أن العلمانيين سيتصرفون وفق معايير ومواضعات ما بعد ١٩٨٣ فيما يخص الموقف من تعاطي الخمور، فالثابت أن الفترة التي تلت ذلك التاريخ الذي شهد منع الخمور قد شهدت تأثيرات كبيرة في المجتمع تجاوزت التأثير المؤقت والسطحي للزجر والعقوبات إلى تأثير دائم وعميق وصل إلى مستوى الاتفاق المجتمعي العام على حُرمة الخمور، والنظر إلى تعاطيها كعيب خارم للمروءة ومنقص من مكانة المتعاطي، فاجتمعت ضد الخمور قوتا التحريم الديني والعيب المجتمعي. لذلك أصبح القلة من المتعاطين من عامة المواطنين يلجأون إلى السرية مخافة الوصمة قبل الخوف من العقوبة .

من الخطأ أن يتوقع الناس أن يخضع العلمانيون تماماً لسلطة الحرام الديني التي يقف وراء تطبيقها خصومهم الفكريين والسياسيين، أو أن يستسلموا لسلطة العيب المجتمعي التي صنعها المتماهون مع خصومهم من المجتمع، ومن الخطأ أن يتوقع الناس منهم أن يضبطوا سلوكهم الشخصي على مقاس معايير خصومهم، ففي ذلك حرمان لأنفسهم من عادة محببة إلى كثيرين منهم من جهة، وفيه أيضاً هزيمة وخضوع للمشروع المضاد وللقوانين التي طالما رفضوها ورفضوا تأثيراتها المجتمعية.
ولذلك من الطبيعي أن يستمر كثيرون منهم على ما كانوا عليه قبل سبتمبر ١٩٨٣ حين كان تعاطي الخمور مسألة عادية بل جزءاً من الإتيكيت والبرستيج في بعض الأوساط خاصةً كبار المسؤولين.

العلمانيون يرفضون مجرد فكرة النقاش والجدل حول قضية الخمور المحسومة في نظرهم بالمبدأ العلماني وبالعرف المجتمعي السابق ل ١٩٨٣ والذي اعتدى عليه خصومهم، ولعل أجرأهم في قول ذلك هو الدكتور النور حمد الذي تحسَّر على ضياع “الاستقرار” الذي سبق سبتمبر ١٩٨٣ حين “لم يكن هناك أي جدل حول مسألة تعاطي المشروبات الكحولية”، وقد حمَّل المسؤولية عن هذه الجريمة للإخوان المسلمين الذين جروا قضية منع الخمور إلى دائرة الجدل بعد أن كانت محسومة لا يتحدث عنها المواطنون ولا المؤسسات الدينية الرسمية !

لكن مع ذلك يمكن القول بأن هناك درجة من درجات التأثير لمعايير ومواضعات ما بعد عام ٨٣ على العلمانيين، ليس على موقفهم الأصلي من الخمور، لكن على خضوعهم الجزئي لسلطة المعايير والمواضعات المجتمعية الجديدة، يتمثل ذلك في الإضطرار إلى السرية عند التعاطي وتحاشي المجاهرة وتأثيراتها السلبية البالغة على صورتهم، وتحاشي الرد بالسلب أو الإيجاب على اتهامات التعاطي، ربما للموازنة بين للإيمان العميق بأنها ليست تهمة، وبين تجنب مصادمة المجتمع الذي لم يتهيأ بعد لتقبل فكرة أن يحكمه المتعاطون للخمور .

لكن العلمانيين يعملون الآن بقوة لدوس هذا الواقع الذي يناقض قناعاتهم ويتحدى جزءاً مهماً من مشروعهم، وإخراج الخمور، تدريجياً، من دائرة الحرام، ودفعة واحدة من دائرة العيب، بالتركيز على الحديث عن حقوق الذين تحدوا الوصمة والعيب وحافظوا – مشكورين مأجورين علمانياً – على جزر تمرد هنا وهناك على واقع ما بعد عام ٨٣، ومن بينهم كما يقول وزير العدل بعض حفظة القرآن الكريم، فهؤلاء يشكلون نواة المجتمع العلماني الصالح التي يمكن البناء عليها لاستعادة أمجاد العلمانية التي أضاعها المهووسون دينياً، ليتم ترجمة الحديث في التعديل القانوني الذي يبيح الخمور لغير المسلمين، وفي التهاون في التعامل مع السكارى في الشوارع مسلمين وغير مسلمين، فعندما يعتاد الناس على رؤية المتعاطين والبارات والخمارات وربما المصانع تضعف عندهم مسألة العيب وتبدأ العودة التدريجية إلى المعايير العلمانية ما قبل ١٩٨٣.

من الواضح أن العلمانيين لا يتجاهلون بالكامل الأثر الباقي ل ١٩٨٣، ولهذا لم يتجرأوا في هذه المرحلة على العودة القانونية دفعةً واحدة إلى القانون العلماني القديم الذي يبيح الخمور للجميع، لكن من الواضح أيضاً أنهم يطمعون في تأثيرات اجتماعية للتعديل الجزئي الذي لم يوافق القناعات العلمانية الأصلية أملاً في أن يساهم مع مرور الوقت في صناعة البيئة الإجتماعية المهيأة لاستقبال التعديلات القانونية الكاملة، ولن يسهل على أي علماني أن يعترض على صحة هذا التحليل، وإلا لاستطاع أن يعترف بخطأ القوانين العلمانية قبل ١٩٨٣ وهو الخطأ الذي لا يمكن تبرير التعديل القانوني الجزئي الذي لا يبيح الخمور للمسلمين إلا به، أو بالاعتراف بالأثر الاجتماعي العميق الباقي لقوانين الشريعة، وبكراهية العلمانيين لهذا الأثر وتحايلهم للقضاء التدريجي عليه .

إبراهيم عثمان

اترك رد