إبراهيم عثمان يكتب : جناية النظام على العلمانية !

السودان

الخرطوم:الرآية نيوز

جناية النظام على العلمانية !

أكبر جنايات النظام العسكري – القحتي على سمعة العلمانية هو ما حققه من فصل شديد الوضوح، لا بين الدين والدولة فحسب، بل وبين العلمانية والديمقراطية أيضاً ! فالمدنيون، تناسوا تنظيرهم الكثير عن أن العلمانية هي أساس الديمقراطية، وعن أنه لا ديمقراطية إلا بالعلمانية، ولا علمانية إلا بالديمقراطية، لكي ينفوا صفة الديمقراطية عن الأنظمة غير العلمانية وإن كانت منتخبة، ولكي ينفوا صلتهم بالأنظمة العلمانية التسلطية التي سقطت والباقية وإن ضُبِطوا مراراً بتأييدها .. تناسوا كل هذا وسعوا للعلمانية بلا انتخابات .. والعسكريون يقولون إنهم مستجدو علمانية، وإنهم اعتنقوها بأكثر الطرق غرابةً؛ اتفاق سلام ! بعد أن قاموا بتقحيط معنى التفاوض ليتحول من مساومة وتنازلات متبادلة فيما يقبل المساومة والتنازلات إلى تنازل من طرف واحد لا في التفاصيل بل في العنوان وفي موضوع الاختلاف الرئيسي المفترض، بما يجعلهم يصادقون على مشروع الطرف المفاوض بعنوانه وتفاصيله كمشروع لكل السودان !!

مشروع يحرسه ميثاق البرهان الغليظ وشرف الكلمة بعد مبايعته للحلو تلميذاً في مدرسته العلمانية، وتحرسه قبل ذلك بنادق البرهان، وبنادق الحلو التي تعهد البرهان بالسماح لها بأن تظل مرفوعة إلى حين تضمين العلمانية في الدستور الدائم كأقوى ضمانة ! ويحرسه، هذه المرة، تخلي أحزاب قحت عن اعتراضاتها على اختطاف العساكر للملفات وتغولهم على الصلاحيات .. من هو ذلك المغفل الذي يصدِّق أن البرهان ذهب إلى جوبا غير علماني وعاد علمانياً كامل الدسم؟! أو ذهب غير علماني وعاد مجبراً – بقوة منطق الحركة، أو بقوة سلاحها، أو بالإثنين مع ضغوط الوسطاء – على رعاية مشروع لا يؤمن به ؟! لا يوجد شخص غير علماني يمكن أن يتنازل عن فكرته المركزية ويدينها ويقبل تصنيفها كفكرة متطرفة ويسلِّم بوجاهة واعتدال الفكرة النقيضة.

من جنايات نظام البرهان -قحت على العلمانية أنهم قدموها كأسوأ ما يكون التقديم، خرساء بكماء، مستخفيةً تخشى الأنظار والأسماع، تأخذ أقصى درجات الأهمية في التطبيق وأقلها في التبشير، لا يترافع عنها حمدوك ولا يمهد لها البرهان، ولا يأتي على سيرتها الدقير، ولا يحاضر في أهميتها عبد البارئ،
وكأنهم قد اتفقوا جميعاً على قبحها الذي لا يمكن ستره، فيئسوا من تجميلها بالأقوال، فقنَّعوها بحجاب من نوع آخر؛ حجاب غايته ستر القبح لا تغطية المفاتن ! .. فوا عجباً لمن رفضوا الحجاب الطوعي ثم احتاج مشروعهم بكامله إلى حجاب اجباري متعدد الطبقات يغطي الإسم، ويطمس الملامح، ويكتم الصوت ! ولم يستطيعوا نزع الحجاب إلا بعد الاستتار خلف حجاب السلام وبعد تحالف بندقيتي البرهان والحلو !

وا عجباً لمشروع. يستحي منه أصحابه وهو القائم أصلاً على نفي الحياء ! وا عجباً له وأصحابه يتهامسون في الغرف المغلقة؛ كيف السبيل إلى مخادعة الجمهور به ؟ كم منه يتحمله الجمهور في مرحلة تطوره الحالية، وما الذي نغامر بكشفه من قبحه ليعتاده الناس، وما الذي نؤجله ؟ ولن يكون المرء مغالياً في سوء الظن إن جزم أن هذه هي الأسئلة الرئيسية التي تسيطر على أذهان العلمانيات المتطرفات العاكفات الآن على صياغة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين .

من، غير العلمانيين الأصليين، والراستات والمخدوعين، سيصوتون لمشروع تقنَّع ليخادع وليتجاوز مرحلة الإقناع إلى التطبيق ؟ من غيرهم سيصوت لمشروع لم ينفعه القناع وتبدَّت قبائحه للجميع، بسبب الهمة في التطبيق، فكانت هي الرسالة وهي المشروع لا مجرد عوارض جانبية ؟! من غيرهم سيتغافلون عن الربط بين القبائح التي سرت في الشارع؛ فوضى عامة، نهب وسرقات ، وعرى، ومجون، وفضائح، وعروض ومواد فاضحة، وخمور، وردة وإلحاد، ودعارة، ومثلية، وبين حقيقة أن رعاية هذه الفوضى كانت هي عناوين “الإصلاح” القانوني التي أخذت الأولوية فلم تحتمل التأجيل ! فوجد بعضها العناية الكاملة فكان إلغاء العقوبة، وكان تخفيفها عن بعضها، وكانت إعادة التعريف مع تخفيف العقوبة لبعضها . من غير هؤلاء سيتغافل عن الحقيقة الكبرى التي تقول إن إرادة الحكومة هي عدم إيقاع العقوبات حتى بعد تخفيفها، وأنه، لولا الحياء لكان الإلغاء، لا التخفيف، هو مصير كل المواد التي تقف أمام الحريات العلمانية، يثبت هذه الحقيقة تغاضي الحكومة عن معاقبة السكارى المسلمين وإن جاهروا وترنحوا في الشوارع، أو وثقرا سكرتهم وبثوها في اللايفات، وتغاضيها عن معاقبة الذين يوثقون لسلوكهم الفاضح وينشرونه، وعدم تطبيقها لمادة إزدراء الأديان على الملحدين الذين كثرت تطاولاتهم على الإسلام .

المؤكد أن أحزاب الفكة اليسارية قد حققت عكس مقصودها حين اختارت أن تعالج مشكلتها مع صناديق الانتخابات عبر الفترة الانتقالية الطويلة والمتجددة مرة بعد أخرى، اللهم إلا إن كان مقصودها هو خيار شمشون الانتحاري للتمتع المؤقت بالسلطة وبالانتقام من الشعب عبر تطبيق المشروع غير المقبول بالقهر وسلطة الأمر الواقع . إذا جرت الانتخابات الآن ستخسر أحزاب الفكة اليسارية بأكثر مما كان سيحدث لو أنها أجرتها قبل بداية تطبيق مشروعها العلماني، وقبل المعاناة الشديدة المصاحبة له . ومرور الوقت سيزيد من تقليل فرصها في الفوز . أما إن كانت تريد بقاءها في السلطة واستمرار مشروعها، فليس أمامها إلا أن تصل إلى هذه القناعة قبل موعد الانتخابات، وتستجيب للرغبة الإقليمية/العسكرية في أن تستمر “الشراكة” إلى ما بعد الانتخابات على أن تقبل بأن تقدم مرشحاً من المكون العسكري لانتخابات الرئاسة يضمن هندسة الانتخابات، ويضمن استمرار حراسة المشروع العلماني بالسلاح مقابل التعهد باستمرار تمكينها في الوزارات وفي البرلمان المنتخب .

إبراهيم عثمان

اترك رد