إبراهيم عثمان يكتب : الخواجة التكريتي -٢

السودان

الخرطوم:الرآية نيوز

الخواجة التكريتي -٢

لا أظن أن هناك من شقي بهذا النظام رغم تأييده له مثل الأستاذ عثمان ميرغني، فهو يجد مشقة بالغة في تجميله والاكتفاء بنقد المشفق المتعشم الآمل الذي يرضى الحكام عن انتقاداته، ذلك لأنه كثيراً ما يضطر إلى الانفاق على تجميله من من بقايا مصداقيته، وأطياف مثالياته القديمة عن الحكم الراشد، فيخفض المعايير ليدخل النظام تحتها، وتبقى فقط رتوش التحسينات، وليخرج قلمه عامداً عن كثير من القضايا الحيوية التي تمس الناس في أمنهم ومعاشهم وفي ثوابتهم وأخلاقهم وسيادة بلدهم، وصلاحيات الحكومة الانتقالية، والانتخابات والديموقراطية… إلخ .

من الانتقادات المقبولة عند هذا النظام، بل المحبذة، تلك التي تتعلق بالتقصير في الدوس القانوني وبطء المحاكمات، وعدم تفصيل قضايا كبرى لكل المعتقلين، فعادةً تأتي مثل هذه الاتهامات من المؤيدين المتحمسين، الذين يزايدون على الحكام في كراهية الإسلاميين والرغبة في دوسهم.. الأستاذ عثمان ميرغني يعلم بهذا القبول للانتقادات التي تأتي من هذا الباب، ولهذا أتى مقاله عن وفاة الشيخ الزبير أحمد الحسن بهذا الشكل .

الأستاذ عثمان يعلم علم اليقين أن آخر ما يمكن أن يُتَّهَم به هذا النظام هو التقصير في تفصيل القضايا للمعتقلين، وهو لا يريد أن يتحدث عن الظلم في استمرار حبس من تعجز النيابة عن تفصيل قضايا متماسكة ضدهم، فهذا ليس من انتقادات تحت السقف المحبذة، عنون الأستاذ ميزغني مقاله ب”سؤال العدالة”، وبدأ المقال بالعبارة ( أمس غادر الأستاذ الزبير أحمد الحسن سجن كوبر مرتقياً إلى “عدالة قدسية الأحكام والميزان” )، بما يمكن ترجمته بدون تعسف في التأويل أو محاكمة النوابا إلى ( لقد أفلت من عدالتنا البطيئة لكن الله تعالى سيأخذ لنا حقنا منه ) .

وأضاف ( ليرتفع عدد الذين توفاهم الله قبل أن يقضي القضاء فيهم كلمته إلى خمسة من القياديين رغم أنهم لبثوا بين جدران السجن أكثر من عامين ولا يزال آخرون ينتظرون )، لم يطلق أي حكم قيمة سلبي على الموت في السجن، ولم تهمه اتهامات الاهمال الطبي وعدم نقلهم إلى المشافي إلا بعد أن تسوء الحالة ويقتربوا من الاحتضار، كل الذي يهمه من الأمر أنهم ماتوا قبل أن يُدانوا. فمن الواضح أنه كان يريد أن تكون الإدانة أسرع إلبهم من الموت . قد يقول قائل : هو لم يتحدث عن الإدانة بل عن كلمة القضاء فيهم، ويمكن الرد عليه بأن الأستاذ عثمان في المقال نفسه كان قد انتقد انتهاء بعض القضايا بالبراءة ( إما لأنها ليس فيها اتهام حقيقي أو لأنها قضايا لا يسندها دليل دامغ)، ولن نظلمه إذا توقعنا أنه كان سيحتج أيضاً إن انتهت القضايا المفصلة للموقوفين أيضاً بالبراءة، فهو يريد قضايا كبرى تسابق عزرائيل وتُحكَم سريعاً ولا تنتهي بالبراءة، .

( المشهد العام يبدو كما لو أن الحكومة ترجو أن تنقضي القضايا بالموت فترفع الأقلام وتجف الصحف قبل أن تصل القضايا للقضاء،) وهنا أيضاً لا يعنيه الموت في السجون بقدر ما يعنيه عدم تفصيل قضية كبرى أو عدة قضايا لكل معتقل ، فكما أسلفنا فإن آخر إتهام يمكن أن يُوَجه إلى هذه الحكومة هو التقصير في اتهام المعتقلين، والأستاذ عثمان، كما هو واضح في كلماته، لن يناقش فكرة أن العجز في إيصال القضايا إلى المحاكم طوال سنتين من الاعتقال يعني عدم وجود قضايا حقيقية أو على الأقل عجز النيابة عن بناء قضايا متماسكة، وهو طبعاً وكما هو متوقع لم يتحدث عن مظلمة من حكمت عليهم النيابة بقانون ( يبقى بالسجن لحين تدبير قضية أو قضايا) .

حتى القاعدة القانونية التي استخدمها فسرها بما يرجح كفة الإدانة : ( لقاعدة القانونية تنص أن “العدل البطيء ظلم سريع” فالعدالة ليست من أجل العقوبة وحدها لمن يثبت الاتهام عليه، بل أهم من ذلك هي للإنصاف، إنصاف المظلوم في المقام الأول قبل الاقتصاص من الظالم ) إذ لم تحدثه نفسه أن يحاول أن يبدو منصفاً ويتحدث عن الجزء الذي يخص المتهمين في هذه القاعدة، أي أن تأخير العدالة سيظلمهم إن كانوا أبرياء خاصة الذين يتوفون قبل الحكم. فهو يتحسر على أن الشيخ الزبير وغيره من المتوفين في سجون البرهان وحمدوك ماتوا قبل أن يُقتص منهم وقبل انصاف من ظلموهم، فروح مقاله تحمل الثقة بإدانتهم .

وحتى عندما أراد أن يبدو منصفاً وتحدث عن ( معمر موسى ورفقاه ) كنوع مختلف من المعتقلين، فإن أقصى لوم وجهه إلى الحكومة هو تطاول اعتقالهم ( دون أن يظهر في الفضاء العام الحيثيات التي زجت بهم في السجن ) أي لعل الحكومة لديها بخصوصهم ما لم تظهره في الفضاء العام .. أما لماذا سمى معمر موسى ولم يسمِّ (رفقاه) فالتفسير المعقول هو أنه اختار أكثر الأسماء أماناً ولا تسبب له المشاكل، فلو أتى على اسم كالجزولي مثلاً فهو يعلم أنه سيغضب عدة أطراف داخلية وخارجية .

( هل فعلاً مؤسسات العدالة تعاني من عطب أو خلل يجعلها (تمشي الهوينا) أم أن هناك ما يعيق مسار العدالة ؟) .. كما ذكرت أعلاه الرجل مشغول بسرعة أحكام الإدانة لا بالتحدث عن مظلمة المحبوسين لسنوات دون محاكمة، فهو يختصر الاحتمالات في العطب في مؤسسات العدالة أو في وجود جهات تعيق مسار العدالة، ويستبعد تماماً أن يكون مرد الأمر إلى عدم وجود قضايا حقيقية في مواجهة المعتقلين، وأن بقاءهم في الحبس إنما هو نوع من الانتقام ، خاصةً وأن أصدقاءه “القضاة ” في لجنة التمكين يوفرون “العدالة” السريعة التي يريدها بلا محامين ولا استئناف ولا استجواب للضحايا، وبعض الذين يتحسر بأن عزرائيل أسرع إليهم من الإدانة قد طالتهم يد اللجنة بما قد يشفي غليله نوعاً ما. وقد كان شريكاً في “عدالة” سريعة يوم الجمعة الماضية انتهت ب( اصابات ودماء) بين الذين أقاموا إفطاراً جماعياً من هيئة العمليات ( في تحدٍ واضح للقانون) كما عبَّرت التيار . ومن يفعل ذلك فإن أسئلة حقيقية عن مدى إيمانه الحقيقي بالعدالة ستكون مشروعة، أسئلة أصدق من “سؤال العدالة” الذي حوله إلى ظلم واضح كما رأينا في السطور أعلاه .

لا شك أن من قرأوا كثيراً للأستاذ عثمان ميرغني في الماضي، وصدقوا مثالياته، سيندهشون كيف تحول سفير الغرب في السودان الذي طالما كانت معاييره لرشد الحكم مرتفعة إلى مجرد بوق يجمِّل القمع والظلم، ويكتب ما يطلبه المسؤولون أو ما يعتقد أنهم سيسعدون به رغم أنه يبدو كانتقادات، ولا يشعر بالشيزوفرينيا وهو ينتقل برشاقة وخفة من المشاركة في ألاعيب لجنة التنكيل إلى المحاضرة عن المحاكم والمطلوب منها، ولا تعجزه الحيلة ليفعل ذلك تحت عنوان العدالة وبكلمات زئبقية مراوغة بما قد ينطلي على بعض الذين لا يتعمقون في قراءة كلماته،.

إبراهيم عثمان

اترك رد