حليم عباس يكتب : هذا العُنف هو جزء من مشهد كبير للفشل السياسي و انسداد الأفق

السودان

رصد : الرآية نيوز

حليم عباس يكتب :

ما يحدث من عُنف و سفك دماء هو أمر محزن و مأساوي بكل ما تعنيه الكلمة. و هو مدان و مرفوض، و تتحمل مسئوليته بالدرجة الأولى آلة العنف العسكرية و قادتها، و تحديداً قادة المجلس العسكري، و بالدرجة الثانية تتحمل المسئولية القوى السياسية التي تعمل على الدفع بالأمور نحو المواجهة الصفرية و تعجز عن إيجاد مخرج سياسي يحفظ الأرواح و الدماء و البلد.
هذا العُنف هو جزء من مشهد كبير للفشل السياسي و انسداد الأفق، و لا يُمكن فهمه أو إدانته أو مواجتهه و إيقافه بمعزل عن السياق السياسي الكلي.
هُناك سلطة أمر واقع، هي في الأساس جزء من إطار كورنثيا الفاشل و الذي بسببه وصلت الأمور لهذا الحد، باعتباره إطارا قائما على فكرة اقتسام السلطة بين العسكر و المدنيين و ليس على أساس مشروع وطني أو رؤية وطنية. هذه الشراكة وصلت إلى نتيجتها الحتمية بإجراءات 25 اكتوبر، و منذ ذلك الوقت تشكل واقع بمعطيات جديدة؛ فعادت أحزاب السلطة السابقة للتصعيد مطالبة بتسليمها سلطة كاملة و هو مطلب غير شرعي و غير واقعي لا تسمح به المعطيات السياسية على الأرض، و لكن أصبحت الأمور أكثر سوءاً مع المزايدة الثورية من لجان المقاومة و واجهات الحزب العجوز بشعارات جذرية ترفض الشراكة و التفاوض و تطالب بسلطة مدنية كاملة و كل ذلك بشكل اعتباطي بدون أي رؤية سياسية و بشكل عبثي تماماً.

يجب أن نكرر دائماً، أن المطالبة بتسليم السلطة و تسليم البلد إلى القوى التي تتظاهر الآن هي مطالبة عبثية و غير مشروعة و يجب الوقوف ضدها و بقوة. لا يحق للقوى التي تتظاهر الآن سواء كانت لجان مقاومة حزب شيوعي أحزاب قحت أو غيرها، أن تطالب بحكم السودان بدون تفويض انتخابي. كما لا يحق للعسكر أن يحكموا البلد بشكل استبدادي. و إذا كانت مهمة العسكر أمنية في الأساس و ليس سياسية، فإن إيجاد الحل السياسي هو مسئولية القوى السياسية و ليس العسكر، على القوى السياسية أن تقوم بواجبها السياسي أولاً، حينها يُمكن محاصرة العسكر و وضعهم في مكانهم الطبيعي. و لكن ما يجري الآن هو عبث سياسي؛ ليس هناك مشروع ثوري و لا مشروع سياسي، هُناك مواجهات بين أطراف كلها بلا مشروع سياسي و لكنها غير متكافئة في القوة. و عندما تواجه الآلة العسكرية بثورة بلا مضمون سياسي و بلا أفق فلن يكون هناك سوى العنف و العنف المضاد.

عندما تطرح معادلة صفرية، ستكون النتيجة معركة صفرية. السلطة ستستخدم وسائلها في القمع، لأنك ببساطة لا تمنحها مخرجا سياسيا؛ فانت لا تريد أن تتفاوض، و لا تريد أن تحاور الآخرين بل ترفض الاعتراف بوجود بعض القوى السياسية من الأساس. قوى ثورة ديسمبر بطبيعة تكوينها و طبيعة وعيها هي قوى إقصائية في الصميم؛ خوضك لمعركة ضد العسكر أو ضد الشيطان نفسه لن يغير هذه الحقيقة؛ و بالتالي لا يحق لهذه القوى المطالبة بحكم السودان بالشكل الذي تريده و رغما عن انف الجميع، مهما ناضلت و ناضلت و ناضلت ضد العسكر. من كان عنده هوى لمحاربة العسكر فهذا شأنه و له أن يحمل السلاح مثلهم إن أراد، و لكن حكم السودان يجب أن يكون عبر الانتخابات الحرة النزيهة التي يشارك فيها الجميع. هذه نقطة في غاية الأهمية، لأن هُناك الكثير ممن يعتقدون أن دماء الشهداء هي تذكرتهم نحو السلطة مرة أخرى.

إن استمرار المعادلة السياسية بهذا الشكل، سيرفع تكلفة كل الحلول. التسوية تكلفتها سترتفع لو استمرت المواجهات و العنف، حتى الأحزاب السياسية التي تستثمر في المواجهات لن تستطيع العودة إلى التسوية إلا بثمن سياسي باهظ جداً. و كذلك كلفة الحل الثوري الجذري سترتفع للغاية؛ فكلما تورط العسكر في القتل و الدماء كلما استماتوا في التمسك بالسلطة دفاعاً عن أنفسهم، و مجزرة فض الاعتصام أكبر دليل، و بالتالي كلما استمرت الأوضاع في التصعيد كلما ابتعدنا عن الديمقراطية و انتقال السلطة؛ إذ لا يُمكن لشخص مهدد بالمشنقة أن يسلم السلطة بانتخابات أو بغيرها. إعادة صلاحيات جهاز الامن مؤخراً تأتي في هذا السياق؛ السلطة ستستخدم أدواتها في المعركة مثلما يستخدم الشارع أدواته، و أدوات السلطة هي الُعنف القمع و الاعتقال و القتل. هذه الادوات لا يُمكن تحييدها و إخراجها من دائرة الصراع إلا عبر الحلول السياسية و الحوار و التسويات. ثورة ديسمبر استطاعت أن تنجح، مهما كانت ملابسات الانقلاب على البشير، لأنها امتلكت شعارات سياسية ذات طابع أخلاقي، و لأنها راهنت على السلمية و على وحدة ما كان يُعرف “بالصف الوطني” قبل ان تتنكر له أحزاب قحت و تابعيها لاقحا. الحراك الحالي لا يحمل هذه الشعارات و ليس لديه أي مضمون أخلاقي أو سياسي، مجرد غضب أرعن هستيري بدون أي أفق، و هو معزول سياسيا و اجتماعيا عن بقية مكونات الشعب مهما أنكر البعض هذه الحقيقة. و لذلك، فإن هذا الحراك ليس لديه نفس الفرصة التي وجدتها مظاهرات ديسمبر التي شاركت فيها أطياف واسعة من الشعب و كان الجميع يحدوهم أمل في واقع أفضل، هذا الأمل للأسف لم يعد ممكناً الآن. و لا يُمكنك توحيد الشعب على هدف شنق البرهان و حميدتي، هذا ليس هدفا و لا مشروعاً سياسياً.

البلد حاليا تواجه خطر الانزلاق نحو الفوضى، حتى لو حصل انقلاب بواسطة الجيش ضد القيادة الحالية، و هو الرهان الوحيد للمظاهرات الحالية، فإن هذا الانقلاب سيواجه بتعقيدات لا حصر لها، ليس أولها مشكلة الجيوش المتعددة و على رأسها الدعم السريع و لا آخرها مشكلة الوفاق السياسي و المجتمعي و شرعية السلطة الجديدة. و لذلك، إذا كان هُناك حل، فهو الحل السياسي و لكن في أفق وطني أوسع من ديسمبر و أفق ديسمبر. الشارع حاليا منقسم سياسيا و ممزق، و لكن لأن قوى ثورة ديسمبر تظن نفسها هي الشارع فهي لا تشعر بهذا الانقسام و هذا التمزق، لأنها لا تعتقد بوجود قوى غيرها لها حق في هذا البلد، و هذا هو أس المشكلة، و هو ما يستوجب تجاوز وعي ديسمبر نحو وفاق سياسي حقيقي كخطوة ضرورية و لا غنى عنها. هذا إن أردنا حلا سياسياً.

اترك رد