دكتور ياسر أبّشر يكتب : دكتاتورية عمر (3)

السودان

الخرطوم : الراية نيوز

دكتور ياسر أبّشر يكتب : دكتاتورية عمر (3)

سبق أن رويت للقراء الكرام استمتاعي بما كان يرويه لي المرحوم أحمد سليمان المحامي، وأستأذن اليوم لأروي ما حدثني به يوماً عن قُوّة علاقته بالترابي، رحمهما الله، مدخلاً لما بعده.

قال لي: إنه دخل ذات يوم دار الجبهة الإسلامية، وسمع من قيادات حزب الجبهة الإسلامية أن الترابي رفض لهم كلهم الاستجابة لدعوة اجتماع دعاه له رئيس الوزراء الصادق المهدي.. وطلبوا منه التحدث مع صديقه الترابي لإقناعه.. قال: إنه دخل على الترابي، وبعد جدل اقتنع الترابي أن يذهب للصادق، واشترط أن يذهب هو معه؛ لأنه يريده شاهداً على ما سيناقش، فوافق بشرط أن يقول للصادق ما يود قوله.

بالفعل ترافقا، وبعد أن أكمل الترابي والصادق مناقشة الموضوع، الذي طرحه الصادق، يقول أحمد سليمان: إنه قال للصادق: يا سيد الصادق…… الآن السلطة مرميَّة في الأرض وهناك كثيرون يتربصون بها، وأنا أعلم أن جهات سياسية عدة تخطط لانقلاب، فلماذا لا تنسق مع نسيبك ده وتعملوا انقلاب …. الترابي عندو كوادر مؤهلة ومتعلمة وأنت عندك أكبر عدد من النواب في البرلمان عشان البلد دي تتمسك مسكة قوية، وينعدل حالها!!

يقول أحمد سليمان: إن الصادق رد عليه بالقول: خلي الدورة البرلمانية دي تنتهي بعدين نشوف.. فرد عليه أحمد سليمان: يا سيد صادق….. ما بنتظروك، في ناس أحزاب كتار دايرين يعملوا انقلابات وأنا متابعهم وأعرف!!

ويبدو أن أحمد سليمان شجع صديقه الترابي على الانقلاب لما استيأس من الصادق ، وبالفعل نفذ البشير إنقلاب الترابي .
كانت الأوضاع الاقتصادية أواخر الثمانينيات سيئة، ولا يفوقها سوءً إلّا أوضاعنا الاقتصادية اليوم..

وكانت الأوضاع الأمنية سيئة، فقد سيطر قرنق على مناطق شاسعة بالجنوب، ووصل أقاصي أعالي النيل، ولا يضاهيها سوءً إلّا حالنا اليوم، الذي تكاد عصابات ما يعرف بالنقرز وتسعة طويلة أن تسيطر على العاصمة في وضح النهار.

وقتها، كان كل شيء يُغري بانقلاب، مثلما أن كل شيء يُغري بانقلاب اليوم!!

تاريخنا بعد الاستقلال يقول: إن كل الانقلابات كانت بتدبير أحزاب.. فانقلاب عبود كان وراءه مباشرة حزب الأمة.. وكان الحزب الشيوعي والقوميون العرب وراء انقلاب نميري.. ثم قام الشيوعيون منفردين بانقلابهم على نميري في 1971.. وقام البعثيون بانقلاب فشل في 1990.

ويقيني أن كل هذه الأحزاب تسعي للاستيلاء على السلطة بانقلاب اليوم وإن أظهرت خلاف ما تُبطن.

ما كانت الانقلابات بِدَعاً على أحزابنا.. وما قام به برهان ورهطه في 11 أبريل 2019 لم يكن شيئاً غير الانقلاب، فلولاهم لما أسقطت المظاهرات حكومة البشير، وما القول بسوى ذلك إلّا دِثار نُخفي به الحقيقة.

ومن ثمّ، فالمحاكمات بتهمة انقلاب يجب أن تشمل قادة البعث وقادة الشيوعي وكل قادة الأحزاب التي شاركت في انقلاب، وكل قادة عسكريين قاموا بانقلاب، بما في ذلك برهان وزملاؤه، ولا يجب أن تقتصر على البشير وزملائه، الذين قاموا بانقلاب 1989. وهذا ما أراه الحق والعدل.

بل يجب محاكمة الشيوعيين؛ لأنهم تحالفوا مع قرنق ودعموه بكوادرهم ودعموه سياسياً وإعلامياً، وهذه الدعومات عينها هو ما فعله حزب الأمة.

فكما أرسل الشيوعي كوادره كعرمان، أرسل حزب الأمة 23 من كوادره للجنوب يقاتلون السودان بجانب قوات قرنق، ودعمه سياسياً، ونسق معه في أريتريا، وغزت قوات قرنق وأفورقي وجيش مريم المنصورة همشكوريب وكسلا وفيها قتلوا ضباطنا غدراً وهم نيام، ووقف معه إعلامياً.

استهداف السودان بالتواطؤ مع قرنق خيانة تفوق الانقلابات فداحةً.

وبالنظر لخيانة هذه الأحزاب، وإهمالها الجيش حين حكمت (حكومة الصادق) كان ينبغي أن نُكرّم البشير؛ لأنه قَوّى قدرات الجيش، وزاد من تأهيل جنوده وضباطه، ووطّن الصناعات الحربية. وفي عهده عاش العسكر في نعيم نسبي واكتفاء ذاتي كبير، من حيث السكن والمؤن والعناية بأوضاعهم الصحية، واحترام المعاشيين منهم. هذا بالإضافة إلى أنه استطاع حشد الطاقات الشعبية التي كانت ظهيراً وداعماً قوياً للجيش، قاتلت إلى جانبه، واستشهدت بالألوف مع جنوده وضباطه في الجنوب.

فعل البشير كل هذا، وسكت الجيش حين استهدفه خصومه اليساريون.. وها هم يحاكمونه بقانون عدّلوه بعد سقوط نظامه، وهم لا مفوضين ولا منتخبين شعبياً.

ظل التمثيل عبر انتخابات حرة ونزيهة من الشروط التي توافق عليها البشر لسَنّ القوانين. وقد كان التمثيل من أقوى أسباب الثورة الأمريكية ضد المستعمرين الإنجليز (1775- 1783)، وذلك حين رفض الأمريكان فرض ضرائب من غير برلمان يكونون ممثلين فيه. وكان شعارهم:
«لا ضرائب بلا تمثيل No Taxation without Representation».

وعليه، فإن تعديل القانون بواسطة قلة غير منتخبة جريمة في حد ذاتها.

وبما فعلوا فقد خرقوا القانون الجنائي السوداني، بل خرقوا مبدأً عالمياً وهو: «مبدأ عدم رجعية القانون الجنائي»: «Principle of Non- Retroactivity of the law»..
وهذا ما عليه العمل في كل العالم، وينص على: No act is considered a crime unless determined by a law adopted prior to the
date the offence is committed.

وقع انقلاب البشير في عام 1989، فكيف يحاكم بتعديل قانوني وينفذ بأثر رجعي، بعد مضي 30 عاماً، في عام 2019؟؟
أيُّ عدل هذا الذي ينادي به السياسيون ونشطاء قحت ( الله يكرم السامعين ) الذين يصرخون صباح مساء وينعقون «حرية.. سلام.. وعدالة»!!!

والحقيقة أنه بمحاكمة قائد الجيش الـمُشير وإهانته فقد رضي الجيش لنفسه المهانة، ومهانة قام بها نشطاء أحزاب، لا وزن ولا احترام لها في المجتمع السوداني، مهانة يمارسها حميدتي، الذي لا علاقة له حقيقةً بالقوات المسلحة.

ثم إنني أحتاج لتفسير لنعي مجلس السيادة للمرحوم المحترم أبو القاسم محمد إبراهيم ، وهو من قادة إنقلاب نميري !!!

في بعض الأحيان يعتورني إحساس أن تهريج اليساريين ومريم في السوشيال ميديا هو الذي يحكمنا، وأن تهريج هذه القلة يصدِّقه بعض الجيش ويخيفه. هذا رغم أنها قلة أثبتت خلال التجربة في الحكم أنها بلا معرفة وبلا تجربة، ولكن بكثير من الحقد وكثير من الفساد، ولا تكترث لمعاناة الشعب، أو احترام الجيش . هذه القِلة هي التي وراء محاكمة قائد الجيش السابق وإهانته .
نواصل، إن شاء الله.

دكتور ياسر أبّشر
——————————
21 أبريل 2022

دكتور ياسر أبّشر يكتب : دكتاتورية عمر (2)

اترك رد