إبراهيم عثمان يكتب : حزب التحفظات المهزومة !

السودان

الخرطوم:الرآية نيوز

حزب التحفظات المهزومة !

يسعى حزب الأمة القومي لإيجاد تعريف جديد للوسطية، والاعتدال، تعريف لا يكتب مفرداته هو وإنما الحلفاء أساساً ثم الخصوم، إذا كان الاعتدال بالتعريف الغربي يعني العلمانية، فهو يستطيع أن يتخذ من المواقف وأنصافها وأرباعها ما يجعله عند الغربيين قريباً من ذلك التعريف، مع التحوط بتحفظات باهتة لا تقطع الجسور ولا تبني الأسوار ولكنها قد تخدِّر الجمهور المحافظ، وإذا كان الاعتدال بالتعريف الإسلامي تُصاغ مفرداته من داخل الإسلام بما يقطع مع العلمانية حاول أن يتخذ من المواقف القولية ما يوحي لقواعده بأنه ليس بعيداً عن هذا التعريف، ومن المواقف العملية ما يقنع الغرب والعلمانيين بأنه برئ منه براءة تامة.. لا يُرجَى لنصره فكرة لا يرضى عنها الغرب، ولا يؤمَّل فيه للمساهمة في التصدي الفعال لنقيضها.. يتعاون مع الشركاء في هزيمة تحفظاته فلا يتحسسون منها ولا يساجلونه ولا يساجلهم، وبعض كوادر الحزب من العلمانيين الصرحاء لا يشعرون بالغربة داخله.

لا يلح الحزب على تحفظاته ولا يعيد التذكير بها بعد إعلانها أول مرة، ولا تتسبب في صناعة مشاكل تهدد الشراكة، فهو من بعد التحفظ الباهت ينتقل مباشرة إلى الصمت المتواطئ، ثم ينتقل، مع الحلفاء، إلى مقارعة المتحفظين والمعترضين الجادين، وسرعان ما ينخرط، كالحلفاء تماماً ، في إحصاء العوائد الإيجابية لما تحفظ عليه، مع فارق بسيط هو عدم الإشارة إلى أن هذه الثمرات بنت تلك الأشياء المُتحفَّظ عليها، وهذا يجعله خير حليف لأصحاب المشاريع الشاذة، فلا فكرة قوية محددة المعالم يزاحمهم بها في التطبيق، وحتى التحفظات لا تخلو من خدمة لهم، فهي بما أنها تؤول في النهاية إلى ما يشبه الموافقة بالتسلسل التنازلي أعلاه، فإن أثرها العملي لن ينعكس في قطيعة نفسية عند جمهور الحزب تجاه المشروع المتحفظ على بعض بنوده، بل ولن ينعكس حتى في تحييده، وإنما في تجييشه، بعد التدرج المحسوب، لمصلحة المشروع .

يتعامل مع المواضيع الرئيسية لتحفظاته ( العلمانية، التطبيع) وكأنها اتفاقيات دولية عليه أن يصادق عليها لأنها تمثل الإجماع “لشعوب” السودان، أو على الأقل لشعوب مكونات الشراكة، على إن يكتفي بالتحفظات الهامشية الباهتة التي لا تزعج أطراف الاتفاقية ( ولا تتعارض مع هدف الاتفاقية والغرض منها ) كما تشترط الاتفاقيات الدولية ، وبما أن الحزب لا يمثل شعباً من هذه “الشعوب”، ولا إقليماً منعزلاً في السودان، فإن التحفظات هنا ستكون غاية في الشكلية وغير ذات أثر فعلي، فخيار التحفظ (بالاستبعاد) متعذر، وكذلك خيار التحفظ (التفسيري)، فلا دولة ولا إقليم خاص بالحزب ليتكفل التحفظ بالاستبعاد ياستثنائه من سريان الجزء المتحفَّظ عليه، أو ليتكفل التحفظ ( بالتفسير ) بتطبيقه وفق تفسير الحزب الخاص الذي لا يتعارض مع القيم والمبادئ التي تسببت في التحفظ .

عندما نثر الجمهوريون
كنانتهم وعجموا عيدانها فوجدوا عمر القراي أمرها عودا وأصلبها مكسرا فرموا السودانيين به، فعل حزب الأمة شيئاً مشابهاً فرماهم بنصر الدين مفرح كأنسب وزير شؤون دينية في دولة علمانية يحظى بالتأييد والثقة التامة من غلاة العلمانيين، وكان الحزب، كالعادة، بين التبني للوزير والنأي عنه في مرحلة حكومة “الكفاءات المستقلة”، لكنه انتقل خطوات نحو التبني عندما أتت الحكومة الحزبية وكان مفرح قد أثبت جدارته كوزير شؤون دينية مثالي لحكومة علمانية، بدأ عهده بالبحث عن عبدة الأحجار، وبمغازلة اليهود وتخصيصهم – دون سائر المهاجرين الذين غادروا – بدعوة الهجرة مرة أخرى إلى السودان، ليكون الانسجام هو العنوان العملي لتعامل حزب الأمة مع مواقف الحكومة تجاه قضيتي العلمانية والتطبيع ..

المواقف الرمادية للحزب بخصوص التطبيع قديمة، فهناك الزيارة “التاريخية” للدكتورة مريم المهدي إلى الضفة الغربية، وقد نفت الدكتورة وقتها أي دور إسرائيلي في تسهيلها، علماً بأن السيطرة في المعبر بين الأردن والضفة لإسرائيل، وعلماً بأنه لا يستطيع أحد زيارة الضفة بدون إذن إسرائيلي، وإلا لزارها الآلاف من المهجرين الفلسطينيين الممنوعين من حق العودة والزيارة، ثم إن الزيارة نفسها تعتبر درجة من درجات التطبيع، وإلا لما امتنع أغلب المسؤولين العرب والمسلمين عن زيارة الضفة، ولما وجد هذا الامتناع التفهُّم من الفلسطينيين ..

الإثبات الآخر لهامشية تحفظات حزب الأمة هو إقباله بشهية مفتوحة للمشاركة الفاعلة في الحكومة بعد قطعها لأشواط مقدرة في تطبيق كل ما يتحفظ عليه الحزب، فليس من بين هذه التحفظات ما يثير المشاكل غير تلك الخاصة بنصيبه في السلطة، وحتى اختلاف الحزب مع القراي أتى على خلفية عداوته المعلنة للحزب والثورة المهدية، ولولا ذلك لكان الأرجح أن يتعامل معه بالخطة التي تبدأ بالتحفظ الباهت ثم التسلسل التنازلي بخطواته المشار إليها في صدر المقال ..

إبراهيم عثمان

اترك رد